على مدار العقد الماضي، نالت الفرص والتحديات المرتبطة بالمدن الذكية اهتماماً كبيراً. وهذا ليس بالأمر الغريب، خاصةً أن المدن الذكية تتمركز في ملتقى الطرق بين توجهين كبيرين مؤثران في المجتمعات الحديثة، ألا وهما (1) التمدّن الذي سيستقطب ثلثيْ البشر إلى المدن بحلول عام 2030 و(2) الابتكار التقني الذي يتسارع بمعدلٍ كبيرٍ يؤدي حالياً إلى خلق تغيرات عالمية ضخمة، ويسفر عن بعض ردود الأفعال السلبية (كمجال الذكاء الاصطناعي مثلاً).
لكن، يفتقر صنّاع القرار من القطاعيْن العام والخاص المنهمكين حالياً في سياسات تطوير المدن الذكية لحلقتي وصل مهمتين. أولهما المقاييس غير الملائمة لقياس أداء المدن الذكية، وفشل الجهود الرامية إلى تأسيسها في السياقات المختلفة حول العالم. وثانيهما تعريف المدن الذكية الذي يفتقر إلى التوازن عموماً، حيث عادةً ما يُنظر إلى تلك المدن على أنها "مساعٍ تقنية" يتغيب فيها غالباً "الجوانب الإنسانية" أو يُقلّل من شأنها.
فلنبحث في هذه المسائل وفقاً لنتائج أداتيْن دوليتيْن حديثتيْن تتعاطيان مع هاتيْن الفجوتيْن: "مؤشر المدينة الذكية" (المعهد الدولي للتطوير الإداري/جامعة سنغافورة للتقنية والتصميم) ومؤشر "ختم وجائزة المدينة للرخاء والشمول" (الصادر عن "دي إل بارتنرز". ما الدروس المستفادة وردود الأفعال المتعلقة بالسياسات التي يمكن استخلاصها منهما؟
الموازنة بين العوامل البشرية والتقنية: مؤشر المدينة الذكية[1]
إن الفلسفة الكامنة وراء "مؤشر المدينة الذكية" هي أن صنّاع السياسات وقادة المدينة يحتاجون إلى ما هو أكثر من مجرد الاعتماد على مؤشرات تتعلق بالتقنيات المتاحة، أو نشر أدوات مثل الشبكات الذكية أو الإضاءة الذكية أو مواقف السيارات الذكية. بل ينبغي أن تكون لديهم أيضاً سبلٌ لتحديد "السبب" وراء بناء المدن الذكية – وليس التعرف على "الكيفية" وحسب. وبتعبيرٍ آخر، ينبغي أن تكون المدن الذكية مدناً تكون فيها سعادة المواطنين وجودة حياتهم الأولوية القصوى والغاية المطلقة.
ويتعاطى مؤشر المدينة الذكية مع هذا التحدي بجمع التصورات الجماعية من مائة واثنتي مدينة حول العالم وتمثيلها بشكل رقمي ومتناغم بما يتعلق بنظرة المواطنين لجهود الحكومات المحلية والبلديات تجاه بناء مدن ذكية. واختُبرت منهجية المؤشر المبدئية استناداً إلى 16 دراسة حالة من مناطق مختلفة، بما في ذلك مدينتي دبي ورام الله من المنطقة العربية.[2]
كيف نبني مدناً مزدهرة وسعيدة في هذا العصر الذي تسوده ضبابية الرؤية؟ وما هو التصور السائد عن "المدينة الذكية" لدى صناع السياسات وقادة الأعمال في مدن مختلفة مثل بوسطن وبوينس آيرس وأمستردام ودبي ورام الله وجاكرتا وبنغالور وسنغافورة وسول؟ وهل بوسعنا تحديد الظروف المثالية للنمو والرفاه وقياسها في عالمنا سريع التغير؟
في عام 2019، كانت المدن الأوربية الأكثر شيوعاً حسب تصنيفات مؤشر المدينة الذكية، بينما تصدرت سنغافورة القائمة. كما كشفت التصنيفات أنه ليس بالضرورة أن تكون المدينة كبيرة لتكون ذكية، فالمدن متوسطة الحجم (التي يقل عدد سكانها عن مليون نسمة) مُمثلَّة بكثافة في قمة المؤشر. وفي المنطقة العربية، أظهرت دبي (المرتبة 45 في التصنيف) وأبوظبي (المرتبة 56 في التصنيف) والرياض (المرتبة 71 في التصنيف) نتائج مشجعة، بينما اتضح أن على القاهرة (المرتبة 99 في التصنيف) والرباط (المرتبة 101 في التصنيف) تطوير العديد من الجوانب. وفي تلك الأثناء، أظهرت المدن الصينية والهندية التي شملتها التصنيفات كيف أن السياسات الصلبة عادت بالنفع على المدن الذكية في هذين البلدين المكتظين بالسكان.
الرخاء الشامل على مستوى المدينة: مؤشر "ختم وجائزة المدينة للرخاء والشمول" [3] (PICSA)
من الممكن أن يضر استمرار تردي مستويات انعدام المساواة (أو الإقصاء الاجتماعي) بالنمو والاستقرار الاقتصادي. فبعيداً عن الاعتبارات الاقتصادية المحضة، تتحمل الحكومات أيضاً مسؤوليةً تجاه مواطنيها تُوجّب عليها ضمان أن تعمّ الفوائد الاقتصادية الجميع. وبالتالي، فإن الرخاء الشامل مهم لأنه يخلق الظروف المواتية لمجتمع حَرِك ومبتكِر وواثق وناجح اجتماعياً.
ويهدف مؤشر "PICSA" (ختم وجائزة المدينة للرخاء والشمول) إلى تحديد الممارسات المُثلى على مستوى العالم في هذا الصدد. وقد حددت الفعالية الافتتاحية لمؤشر "PICSA" التي أٌقيمت في مدينة بلباو (إسبانيا) في نوفمبر 2019 أفضل 20 مدينة في العالم من حيث الرخاء الشامل، وهي المدن التي خلقت اقتصاداتٍ قويةٍ ومكّنت في الوقت ذاته مواطنيها من مشاركة المزايا والمنافع. ويهدف المؤشر إلى إظهار المقومات التي تجعل المدن ناجحة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.
وعلى النقيض من "مؤشر المدينة الذكية"، يعوّل مؤشر "PICSA" بقوة على البيانات المُثبتة التي جُمعت من العديد من المصادر الدولية. ويدور هذا المؤشر في مدار ثلاثة أركان: الشمول الاقتصادي والشمول الاجتماعي والشمول المكاني/الصلاحية للسُكنى والمعيشة. و تغطي المتغيرات المُستخدمة داخل هذه الأركان الثلاثة مجموعة كبيرة من الأولويات والسياسات الحضرية، كالتعليم أو التوظيف أو الدخل أو الحِراك الاجتماعي أو المساواة بين الجنسين أو جودة البيئة أو توافر الخدمات الأساسية.
أسلوب A-C-D-E-F لتطوير مدن المستقبل
تنبع بعض الآثار المترتبة على السياسات من مزيجٍ من مؤشريْن مطروحيْن هنا ("مؤشر المدينة الذكية" ومؤشر "PICSA"). وهذه الآثار تتباين بطبيعة الحال من حيث أهميتها في ظل سياق اقتصادي واجتماعي وثقافي محددٍ للمدن قيد النظر. ولحجم المدن أيضاً تداعيات كبيرة على ما يستطيع القادة المحليون إنجازه، وكذلك درجة الاستقلال التي تتمتع بها مدن بحد ذاتها في مقابل حكوماتها الوطنية. ففي دول مجلس التعاون الخليجي مثلاً، يبدو أن الثقة بالحكومة (المركزية والمحلية) عالية، وأن الجهود الساعية إلى الارتقاء بمستوى معيشة السكان مُسلّم بها. وينبغي أن يمثل ذلك أساساً منطقياً للمبادرات الجديدة في الجوانب التي تحصل فيها مدن المناطق على درجات متواضعة نسبياً، كالجودة البيئية والقدرة على تحمل النفقات.
ويمكن اختصار الآثار السياسية المترتبة على هذين المؤشرين على ما نشير إليه بأسلوب "A-B-C-D-E-F" لتطوير مدن المستقبل:
ترمز "A" إلى "السؤال عن السبب" – لا يمكن أن يكون بناء المدينة الذكية غايةً بحد ذاته. وإنما ينبغي أن يهدف إلى تحسين أداء المدينة وتنافسيتها، وتحسين حياة المواطنين، وأن يجعل المدينة أكثر شمولاً لجميع من فيها. وبالتالي، يتعين على استراتيجية المدينة الذكية أن تعتمد على مبادئ قليلة تعكس القيم والغايات المحلية. وهذه المبادئ ينبغي أن تكون ركيزتها الناس بدلاً من أن ينصب تركيزها على التقنية.
ترمز "B" إلى "ترسيخ العلامة التجارية" – إن المدن (وتحديداً الذكية منها) أصبحت عناصر أساسية للمنافسة العالمية. وينطبق ذلك على التدفقات التجارية، وكذلك على الاستثمار والمواهب. وفي مثل هذه البيئة، ستحتاج المدن إلى أن "تترك بصمةً" وأن تشكل ظاهرةً على خارطة العالم إن أرادت أن تكون جذابة. وما زال ما يعرف بـ"تأثير متحف غوغنهايم" الذي تمتعت به مدينة بلباو إثر افتتاح متحفها البارز جلياً إلى الآن. والشيء نفسه ينطبق على برج خليفة في دبي أو متحف اللوفر في أبوظبي. والبنايات الأيقونية ليست الطريقة الوحيدة لبلوغ آفاق الشهرة، فمن الممكن أن يكون الابتكار سبيلاً لتحقيق المكانة المرموقة. فعندما تنافست كوبنهاجن وأمستردام على لقب "عاصمة درّاجات العالم"، عادت المنافسة على العاصمتيْن بالفائدة. وبالتالي فتحديد جانبٍ رئيسٍ من جوانب التفرد (سواء كان اقتصادياً أو ثقافياً أو معمارياً أو اجتماعياً) وتعزيزه بالمستوى الملائم من الاستثمارات والمبادرات المحلية سيكون علامة تجارية مميزة للمدن الناجحة في المستقبل.
ترمز "C" إلى "الجمع بين الرخاء والشمول الاجتماعي" – فالرخاء دون رغبة قوية في تقويض انعدام المساواة ليس بالأسلوب المستدام. وعلى النقيض من ذلك، فإن استراتيجيات الشمول والإدماج التي لا تدعم النمو والابتكار والتنافسية والإنتاجية وخلق الثروات ستظل ضرباً من الأحلام المثالية ولوناً من إعادة توزيع الفقر. وبناء مجتمعاتٍ مفتوحة ومتنوعة سيكون مكوناً أساسياً في هذا الصدد، وكذلك الجهود الرامية إلى تطوير المواهب واستقطابها والحفاظ عليها، مع وضع "وظائف المستقبل" في الاعتبار.
ترمز "D" إلى "قيادة التغيير" – تؤدي الحكومات المحلية (المحافظ ومجلس المدينة وغير ذلك من المسؤولين المنتخبين) أدواراً محورية في قيادة الجهود الرامية إلى بناء مدنٍ أفضل وإدارتها بطرقٍ أفضل. ويؤدي هؤلاء أيضاً أدواراً أساسية في قيادة التغيير في جوانب محورية عندما يصبحون مصدراً للإلهام لباقي المواطنين. ووضع أولويات أساسية، كإعادة إعمار حي محدد، وإنشاء مدارس جديدة وتيسير وصول كبار السن و"ذوي القدرات المختلفة"، يمكن أن تكون كلها أمثلةً لمهامٍ محددةٍ بوضوح يمكن للمواطنين تقديرها ومراقبتها، خاصةً لو توفرت المقاييس الملائمة لها.
ترمز "E" إلى "المشاركة" – ينبغي اعتبار المواطنين "أصحاب مصلحة"، وبالتالي فمن الممكن استشارتهم وإشراكهم في مرحلة مبكرة قدر الإمكان في قرارات التخطيط الحضري والمبادرات المحلية. سيجنبنا ذلك ردود الفعل السلبية المكلفة (تجاه "الاستثمارات العقيمة" مثلاً)، ويضمن الاستمرارية والاستدامة في سياق جهود المدينة لأن تصبح أذكى.
ترمز "F" إلى "أجنبي" – تقدم مختلف الدول حول العالم مجموعة كبيرة من التجارب والابتكارات. وعلى مدار العقدين الأخيرين، أمسى ما حدث في دبي وأبوظبي مثلاً من مشروعات حضرية ومعمارية مرجعاً لكثيرٍ من المدن سريعة النمو في بقاع أخرى من العالم. وبالمثل، فالنقاشات الدائرة في عدة مدن في أمريكا الشمالية وأوروبا بشأن منفعة أو مضار المراقبة بكاميرات الفيديو وتقنيات تمييز الوجوه والسيارات ذاتية القيادة في البيئات الحضرية ربما كانت مؤشراً على توترات شبيهة في مدن أخرى. وقد تُعجِّل الفرص المتضاعفة التي تلوح في الأفق أمام محافظي وقادة المدن لتوصيف تجاربهم المحلية والتعرف على تجارب الآخرين من تبني الممارسات المثلى، مع التخفيف من وطأة مخاطر اقتراف أخطاء باهظة الثمن.
من الممكن أن يساعد هذا الأسلوب المكون من خمسة عناصر والمقاييس الكميَّة الوارد وصفها أعلاه (مؤشر المدينة الذكية والرخاء الشامل) صنّاع السياسات على وضع استراتيجيات صالحة للمستقبل ركيزتها المدينة. لكن في نهاية الأمر، لن تكون هذه استراتيجيات بناء المدن الذكية هذه قابلة للاستدامة إلا إذا بنيت على إدماج المواطنين وبدعمٍ منهم.
برونو لانفين هو مدير المؤشرات العالمية في كلية إنسياد، ورئيس مرصد المدينة الذكية، والمؤسس والرئيس التنفيذي لشركة دي أند إل براتنرز. اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.
المصادر:
[1] تم إطالق مؤشر المدينة الذكية (Index City Smart) ً رسميا في أكتوبر 2019 .وهو من إنتاج المعهد الدولي لتطوير اإلدارة (IMD )في لوزان (سويسرا) وجامعة سنغافورة للتكنولوجيا والتصميم (SUTD )في سنغافورة.
[2] استكشف باحثون من "مركز لي كوان للمدن اإلبداعية" (Cities Innovative for Centre Yew Kuan Lee )التابع للمعهد الدولي للتطوير اإلداري وجامعة سنغافورة للتقنية والتصميم هذه األسئلة في كتاب "16 درجة من الذكاء: كيف تشكل المدن مستقبلها الخاص" (of Shades Sixteen Future Own Their Shape Can Cities How: Smart) ُشر في يونيو 2019.
[3] أطلق مؤشر "PICSA "رسميا في نوفمبر 2019. ُطلق مؤشر "PICSA "رسميا 3.أ وأصدرته "دي آند إل بارتنرز" (Partners L&D) (جينيف). وفي أول إصدار له، شمل المؤشر 113 مدينة.
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.