لن يكون تحقيق أهداف التنمية المستدامة هيّناً، حيث يَستدعي أي تقدّم ينبغي إحرازه أن تعمل الحكومات عبر مختلف مجالات السياسات، وأن تتغلب على العقبات السائدة التي تعرقل الترابط ضمن كل حكومة. فعلى سبيل المثال، غالباً ما تفرض الضغوط الاقتصادية والاجتماعية العاجلة تأجيل مبادرات السياسات الاستراتيجية بعيدة المدة. وعادةً ما تكون الميزانيات العامة وأنظمة المساءلة مرتبطة تحديداً مع هيكليات مؤسسية معيّنة، ولذا تواجه هذه الميزانيات والأنظمة صعوبةً في تتبّع ما يخرج من نتائج في نطاقات السياسات المختلفة الأخرى عبر المستويات الحكومية المختلفة. ولذلك يتعين استشارة طيف واسع بشكل غير مسبوق من الأطراف الفاعلة، في القطاعين العام والخاص، وأن تشارك في صياغة السياسات المتعلقة بأهداف التنمية المستدامة وتنفيذها. إذاً، كيف يمكن للآليات المؤسسية وجهود تحقيق تناغم بين السياسات أن تدعم النقلة من صنع السياسات بالنهج التقليدي إلى نهجٍ أكثر تكاملاً؟ وكيف يمكن لمثل هذه المقاربات أن توازن بين المصالح القصيرة والطويلة الأجل سعياً لتحقيق التنمية المستدامة؟ [1] 

 

وضعت أهداف التنمية المستدامة خارطة طريق لعالمٍ أفضل، لا يشكل فيه الفقر والجوع والمرض وتغير المناخ وعدم المساواة بين الجنسين تهديداً لكوكبنا ورفاهه. وترسم هذه الأهداف عالماً الأساس فيه، لا الاستثناء، توافر الوظائف اللائقة للجميع والبنية التحتية المستدامة والمحيطات النظيفة والطاقة والاستهلاك والإنتاج المسؤول والمياه النظيفة والصرف الصحي والتعليم الجيد. 

 

وإن كنا جديين حول السعي إلى تحقيق هذه الأهداف الطموحة في غضون عشر سنوات، فيجب علينا المسارعة في التقدم في هذا الصدد. ولأجل ذلك، نحتاج إلى حشد الموارد المالية، وكذلك تعزيز قدرة الحكومات على التخطيط والتنسيق والعمل والعمل كالمحفّز لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. 

 

تحدي الحوكمة الهائل 

كيف يمكننا تحويل الالتزامات والمبادئ التي ترسمها السياسات، إلى أدواتٍ تنفيذيةٍ في سبيل تحقيق التنمية المستدامة؟ يشكّل التقدم نحو أهداف التنمية المستدامة تحدياً معقداً على مستوى الحوكمة، حيث تتسم طبيعة أهداف التنمية المستدامة بالتكامل والترابط والامتداد عبر الأجيال، الأمر الذي يستدعي من الحكومات إعادة التفكير في تنظيمها وهيكليتها وأساليب عملها. ومع ذلك، تواجه الحكومات عند التطبيق العملي عقبات كبيرة للتغلب على النهج التقليدي في صنع السياسات الذي يسوده الانفراد و"التصومع". وتكابد الدول من أجل إيجاد نهج حكومي شامل يتناول أهداف التنمية المستدامة، وغالباً ما تكون الجهود المبذولة لتنفيذ هذه الأهداف منفصلة عن أجندة السياسات العامة. فعلى سبيل المثال، لم تُدمج أهداف التنمية المستدامة بعدُ في آليات الحوكمة الرئيسية، من قبيل الموازنة العامة وأنظمة الشراء العمومي. كما تتكرر حالات الافتقار إلى المهارات والكفاءات القيادية المطلوبة لإنجاز مثل هذه الأجندة الشاملة. ولا تزال نظم الرصد والتقييم الخاصة بأهداف التنمية المستدامة تحبو في خطواتها الأولى في العديد من البلدان. ويتمثل تحدٍ آخر في ضمان مساهمة السياسات المحلية في الاستدامة العالمية، مع تحاشي تأثير العوامل الخارجية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية السلبية المفروضة من خارج حدود الدولة، وذلك بما فيه صالح الأجيال المقبلة.[2]

 

تبذل الدول جهوداً كبيرةً في مواجهة تلك التحديات وتحرز تقدماً في العديد من المجالات. ولكن هناك حاجة إلى عقد شراكات وإطلاق منصات أقوى لتتيح تضافر جهود البلدان لتبادل أفضل الممارسات والتعلم من تجارب بعضها البعض في إدارة أهداف التنمية المستدامة. ومن بين هذه المنصات "محور منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي العالمي بشأن حوكمة أهداف التنمية المستدامة"، الذي تأسس حديثاً ليقدم الدعم الذي تحتاجه البلدان حتى تحقق التزامات السياسات والمبادئ إلى أدوات عملية لتطبيق التنمية المستدامة. 

 

تخطي عقلية المؤسسة المنعزلة: تجنب نهج "المقاس الواحد المناسب للجميع" 

تحتاج السياسات وخطط العمل والاستراتيجيات المطلوبة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة دعماً تنظيمياً يتجاوز الهيكلية المقسّمة التي تتبعها الحكومات. ولأنه جزء لا يتجزأ من الحوكمة، يقدم نهج تناغم وتماسك السياسات من أجل التنمية المستدامة، وسيلة للتغلب على المؤسسية المنفردة والعمل المجزأ المتواجد حالياً. وعلى الرغم من عدم وجود نهج واحد يناسب الجميع لضمان تنفيذ أهداف التنمية المستدامة بشكل متماسك، إلا أن التجربة علمتنا أن القدرة على وضع وتنفيذ سياسات متسقة بشكل منتظم في جميع المجالات تعتمد على العمليات والأنظمة والهياكل والأدوات التي تستخدمها الحكومات في إدارة و تنسيق السياسات على جميع المستويات.[3] فما هي العوامل التي ستمكننا من المسارعة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة؟  

 

 

المسارعة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة: المبادئ التمكينية[4]

 

أولاً – الرؤية والقيادة: كيفية نقود تطبيق أهداف التنمية المستدامة؟

الخطوة الأولى: بناء التزام وقيادة سياسية قوية تشمل الجميع

يشترط وجود الالتزام السياسي والقيادة القوية لتعزيز العمل على مستوى حكومي شامل ولضمان تماسك السياسات. ومن الضروري وجود الالتزام السياسي الصريح بتحقيق التنمية المستدامة، معبَّر عنه على أعلى المستويات ومدعوماً بالاستراتيجيات وخطط العمل والسياسات والتشريعات والتعليمات والحوافز، لتمكين جميع فروع ومستويات الحكومة من متابعة تحقيق أهداف التنمية المستدامة بطريقة متماسكة. كما تساعد القيادة السياسية القوية في تأسيس إحساس لدى كيانات الحكومة والجهات الفاعلة الرئيسية أنها شريكة في العمل، وتسهيل اتخاذ تدابير اللازمة لتفادي تعارض السياسات في القطاعات المختلفة أو أن تقوّض بعضها البعض.

 

ولدى العديد من الدول التزامات طويلة الأجل بتحقيق التنمية المستدامة والسياسات المتسقة. ففي السويد عزز تشريع "السياسات لغرض التنمية العالمية" اتساق السياسات منذ العام 2003، وتم ربط هذا الجهد بأهداف التنمية المستدامة عندما تم تجديد هذه السياسة في العام 2014. وفي دول أخرى، ما يزال الالتزام بالتنمية المستدامة في مهده. ففي مصر، أدى التزام الحكومة سياسياً بتحقيق أهداف التنمية المستدامة إلى تبني أول استراتيجية تنمية مستدامة في البلاد، والتي تُستخدم أيضاً في توجيه جهود الإصلاح الحكومي الراهنة.

 

الخطوة الثانية: صياغة رؤية استراتيجية طويلة الأمد وتنفيذها والتعريف بها 

باعتمادهم رؤية العام 2030، التزم قادة العالم بـ "تنفيذ الأجندة بما فيه صالح الجميع، ولجيل اليوم وأجيال الغد". فالرؤية طويلة الأجل وآفاق التخطيط هما أمران ضروريان لدعم الاحتياجات الحالية والمستقبلية بطريقة متوازنة. كما أنهما أساسيان لضمان تجاوز الجهود المبذولة لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة الدورات الانتخابية أو البرامج الحكومية أو التشكيلات الوزارية. 

 

تبنت الحكومات في جميع أنحاء العالم رؤى طويلة الأجل في وضع الاستراتيجيات وخطط التنفيذ لأهداف التنمية المستدامة. فعلى سبيل المثال، تبنت سلوفينيا وفنلندا وبلجيكا رؤى طويلة الأجل ذات جدول زمني يمتد لعام ،2050 لتصمم استراتيجيتها الوطنية للتنمية المستدامة. وفي أيرلندا، يندرج تنفيذ أهداف التنمية المستدامة ضمن مشروع إيرلندا 2040، الذي حدد عشرة أهداف تتماشى مع أهداف التنمية المستدامة. وفي إطار نهج مبتكر يُلزِم تحمل المسؤولية على المدى الطويل، أسست النرويج صندوقاً للأجيال القادمة حتى يعوضها عن خسارة عائدات النفط. وتسترشد جهود دول قارة إفريقيا لتحقيق التنمية المستدامة بأجندة العام 2030، بالإضافة إلى الالتزامات طويلة الأجل بموجب أجندة القارة للعام 2063، والتي تعرف بشعار "أفريقيا التي نريد".

 

الخطوة الثالثة: تحسين مستوى إدماج السياسات

التزمت الدول "بتحقيق التنمية المستدامة بأبعادها الثلاثة؛ الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، بطريقة متوازنة ومتكاملة". ويعدّ إدماج السياسات أمراً أساسياً لتحقيق التوازن بين الأولويات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المتباينة في كثير من الأحيان، وتحقيق أقصى قدر من التآزر والحد من التنازلات في جميع مراحل عملية صنع السياسات. وتكمن أهمية ذلك في أمرين: أولاً، تجنب تحقيق تقدم في أحد الأهداف على حساب هدف آخر؛ فمثلاً، إنتاج الغذاء (الهدف الثاني) وإنتاج الطاقة (الهدف السابع) يمكن أن يتنازعا على نفس مصدر الماء (الهدف السادس) أو الأرض (الهدف الخامس عشر)، وثانياً، لضمان توافق السياسات المحلية مع الأهداف المتفق عليها دولياً. 

 

وما جرى تسجيله في العديد من البلدان يشير إلى الحاجة لتحديد المهام واتخاذ التدابير اللازمة لدعم إدماج السياسات وكذلك الأطر الاستراتيجية أو المؤسسية التي تسمح بظهور منطق جديد للتعاون بين القطاعات وتحديد الأولويات المشتركة. وقد اتخذت المؤسسات الوطنية تدابير مختلفة لتبني التنمية المستدامة في عملها ومواءمة أهداف كل قطاع مع أهداف التنمية المستدامة. وهو ما نجده في كل من المكسيك والنرويج وباراغواي. وبدورها، تستخدم الدنمارك سياسة الشراء العمومي المراعي للبيئة لتعزيز الاستدامة البيئية. وكذلك تستخدم البلدان أسلوب التقييم المسبق للأثر لتحقيق تكامل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في المقترحات السياسية والتشريعية. وهو ما تقوم به بلجيكا، حيث أدمجت في العام 2014 أداة لتقييم الأثر المستدام لدى قياس تقييم الأثر التنظيمي. 

 

ولإدماج السياسات ضرورة كذلك في مواءمة الموارد، العامة والخاصة والمحلية والدولية، لدعم التنمية المستدامة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يؤدي زيادة إدماج السياسات وتحسين مستوى تماسكها في البلدان المانحة إلى تعزيز أثر الموارد التي تبذل لدة تحقيق التنمية المستدامة، وذلك من خلال تعضيد السياسة الضريبية للسلع والخدمات الممولة من جهات المساعدة الإنمائية الرسمية.

 

ثانياً – العمل بالتنسيق: ما هي الجهات المنوط بها تنسيق جهود تحقيق أهداف التنمية المستدامة؟ وكيف يتسنى لها تحقيق ذلك؟ 

 

الخطوة الأولى: التأكد من اتباع نهج تنسيق يشمل كافة الجهات الحكومية 

تستدعي الطبيعة المتكاملة لأهداف التنمية المستدامة آليات تنسيق للسياسات والمؤسسات على مستويات عدة. وبالنظر إلى احتمالية التعارض بين مختلف المصالح فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، فهناك حاجة إلى وضع آليات تنسيق مناسبة قادرة على التنبؤ بالتضارب بين السياسات والتعامل معه. وتكمن ضرورة آليات التنسيق بأنها تمكن الوزارات وجهات القطاع العام وبقية أصحاب المصلحة من المشاركة بكفاءة وتخصيص المسؤوليات والموارد لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة. 

 

وقد تبنت الدول مسارات مختلفة لتنسيق تنفيذ أهداف التنمية المستدامة. حيث شكل بعضها لجان أو آليات جديدة (مجموعات وزارية وبين وزارية دائمة ووحدات استراتيجية)؛ بينما قامت دول أخرى بتسخير مؤسسات وأفراد وموارد تعمل خصيصاً على تحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ وما تزال بعض الدول تبحث عن ترتيبات أكثر ملاءمة لدعم جهودها الوطنية لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة. 

 

في ثلث دول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، تقوم الحكومة المركزية بقيادة وتنسيق تنفيذ أهداف التنمية المستدامة على الصعيد الوطني، ويشترك ثلثٌ آخر من تلك الدول مع الوزارات التنفيذية المعنية، والتي عادةً ما تكون وزارة الخارجية، تليها وزارة التنمية المحلية ووزارة المالية ووزارة البيئة (وذلك بناءً على دراسة استقصائية عن دور الحكومة في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، 2016). وأظهرت التجربة أن آليات التنسيق لا يمكن أن تكون فعالة إلا إذا تجاوزت حيز تبادل المعلومات. ويتمثل أحد الممارسات الجيدة الناشئة في تزويد آليات التنسيق بمهام واضحة للتنبؤ باختلاف وتضارب السياسات الناشئة عن مصالح القطاعات المختلفة وإيجاد الحلول لها. 

 

الخطوة الثانية: التعاون مع الجهات الحكومية على مستوى المناطق المحلية 

تشدد أجندة عام 2030 على أن "تتعاون الحكومة والمؤسسات العامة عن كثب على التنفيذ مع الجهات الإقليمية والمحلية". وتشير التقديرات إلى أن 65  في المائة من الغايات المائة وتسعة وستين الكامنة في أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر لن تتحقق دون المشاركة والتنسيق مع الحكومات المحلية والإقليمية.[5] فالحكومات الإقليمية والمحلية ضرورية لتقديم مجموعة واسعة من الخدمات العامة بالإضافة إلى إحداث التحولات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية اللازمة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة. فقد كانت الحكومات المحلية مسؤولة عن 59.3 في المائة من إجمالي الاستثمارات العامة في العام 2015 في جميع الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وحوالي 40 في المائة في جميع أنحاء العالم. [6]

 

وفي ألمانيا والمكسيك، تدعم الحكومة الاتحادية جهود الحكومات والبلديات الإقليمية لدمج أهداف التنمية المستدامة في سياساتها وإجراءاتها ووضع استراتيجيات التنمية المستدامة الخاصة بها. أما في كندا، فتعاونت الحكومة مع المقاطعات والأقاليم والبلديات لوضع الاستراتيجية الوطنية بشكل يراعي أجندة 2030، كما وقعت اتفاقيات معها في المناطق التي تخضع لولايتها القضائية، مثل تلك التي تتعلق بالبنية التحتية المراعية للبيئة والنقل. وفي الهند، تلعب كل من الولايات والأقاليم الاتحادية دوراً محورياً في تصميم وتنفيذ ومراقبة السياسات التنموية والمبادرات. وبالتالي فهي محركات مهمة لجهود البلاد في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة. 

 

الخطوة الثالثة: إشراك طائفة واسعة من أصحاب المصالح 

تؤكد أجندة 2030 على أن "جميع الدول وأصحاب المصالح سيعملون تحت شراكات تعاونية لتنفيذ هذه الخطة". وتتأصل العقبات الرئيسية أمام تماسك السياسات، في التصورات المتباينة حول التحديات والأولويات فيما يتعلق بالتنمية المستدامة. ويتطلب التنفيذ المتسق لأهداف التنمية المستدامة آليات حوار ومشاركة، يمكن للحكومات وأصحاب المصلحة من خلالها التعاون لتحديد التحديات المشتركة ووضع الأولويات والمساهمة في تشكيل القوانين واللوائح ومواءمة السياسات والإجراءات وحشد الموارد من أجل التنمية المستدامة. 

 

إن تمكين المشاركة الفعالة لأصحاب المصلحة يعني أن يحصلوا على فرص للوصول إلى عملية صنع القرار بشكل عادل ومتكافئ من أجل الموازنة بين مناقشات السياسة وتجنب الاستيلاء على السياسات العامة من قبل مجموعات المصالح الضيقة. في فنلندا، تعدّ الالتزامات التشغيلية من بين الأدوات الرئيسية لتعزيز مشاركة أصحاب المصلحة الرئيسيين وخلق الفرص للمنظمات والمواطنين النشطين لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بجهد مجتمعي. وفي لوكسمبورغ، كان لإطلاق "مقياس السياسة العادلة"، وهو تقرير صادر عن المنظمة الوطنية الراعية للمنظمات غير الحكومية، وما أعقب ذلك من مناقشات في البرلمان، دوراً في تحديد الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة. بينما تطبق إندونيسيا، بدورها، مبدأ شراكة يقوم على الثقة المتبادلة والمشاركة والشفافية والمساءلة للعمل مع أربعة منصات تشاركية: الحكومة والبرلمان؛ منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام؛ الأعمال الخيرية والعمل؛ والأكاديميين. 

 

ثالثاً – إحداث التأثير: كيف نقيّم مدى تقدمنا في تحقيق أهداف التنمية المستدامة؟ 

 

الخطوة الأولى: تحليل وتقييم أثر السياسات والتمويل 

من خلال تبني أجندة 2030، أكدت الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة أنها "ماضية سويةً على الطريق نحو تحقيق التنمية المستدامة، ومكرسةً جهودها الجماعية لتحقيق التنمية العالمية". ومع تزايد الترابط العالمي، يتعين على الحكومات تكثيف الجهود وتبني آليات لتنبؤ ومعالجة الآثار الحتمية لسياساتها في آفاق التنمية المستدامة ورفاه الشعوب في البلدان الأخرى. وفي هذا السياق، من الضروري التركيز على الآثار السلبية المحتملة على الدول النامية، ولا سيّما تلك الأشد احتياجاً، كالدول الأقل تنميةً والدول ذات الدخل المنخفض والدول الجزرية الصغيرة النامية والدول ذات الحدود المغلقة النامية والدول الهشة التي تعاني من النزاعات المسلحة. 

 

تستعين العديد من البلدان بأدوات تقييم تأثير السياسات، بالإضافة إلى الإجراءات التي تجري بشكل منتظم لتقييم وتحليل وتحديد الآثار المحتملة للسياسات. ففي ألمانيا، تخضع جميع المقترحات الخاصة بالقوانين واللوائح الجديدة لتقييم أثر الاستدامة. ومن خلال أداة على شبكة الإنترنت يتمكن صانعي السياسات من تقييم تأثير الاقتراح التنظيمي على كل هدفٍ من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، وترجمتها إلى مستهدفات وطنية. 

 

كما تعمل عدة دول على تحسين العمليات والمبادئ التوجيهية لتقييم الأثر، لمواءمة السياسات مع أهداف التنمية المستدامة، والنظر بشكل أكثر منهجية في الترابط بين إجراءات تنفيذ أهداف التنمية المستدامة على المستويات المحلية والدولية. فعلى سبيل المثال، نسّقت هولندا إطار التقييم المتكامل الخاص بها مع أهداف التنمية المستدامة لبحث الآثار المحتملة في الدول النامية في وقت مبكر من عملية صياغة سياسات وتشريعات جديدة. 

 

الخطوة الثانية: تعزيز أنظمة الرصد والإبلاغ والتقييم 

يعتبر صنع القرار المبني على بيانات علمية موثوقة ومناسبة، عنصراً حاسماً في تعزيز تماسك السياسات من أجل تحقيق التنمية المستدامة. ويتطلب التنفيذ المتسق لأهداف التنمية المستدامة آليات لرصد ما يتم إحرازه من تقدم، وتقديم التقارير إلى الجهات المسؤولة والرأي العام، وتوفير التغذية الراجعة حتى يتم تعديل الإجراءات والسياسات القطاعية في ضوء الآثار السلبية المحتملة أو غير المقصودة. 

 

مثلاً لدى سويسرا نظام شامل لرصد التنمية المستدامة تطبقه منذ العام 2003، وهو يعرف اختصاراً باسم MONET. وقامت في 2016 بتعديل النظام لمراعاة التوحيد بين أهداف التنمية المستدامة والاستراتيجية السويسرية للتنمية المستدامة. وما يهم بالأمر هو أن الإطار المفاهيمي لهذا النظام يتبنى نهجاً شمولياً، ويكفل أن يقوم نظام المؤشر بدمج الأبعاد الثلاثة للتنمية المستدامة والتفاعلات فيما بينها. كما تشمل المؤشرات أيضاً بيانات "البصمة"، حول أثر استخدام سويسرا وتوزيعها للموارد البيئية والاقتصادية والاجتماعية في بلدان أخرى. وفي كولومبيا، يقوم نظام الرصد (والتقييم) الوطني SINERGIA بتتبع مؤشرات العمليات والمخرجات والنتائج في خطة التنمية الوطنية. وقد لاحظ تقييمٌ أولي لمدى التماسك بين مقاصد التنمية المستدامة (169 مقصداً) وخطة التنمية الوطنية وجود 92 مستهدفاً له إجراءات مماثلة في خطة التنمية الوطنية للفترة 2014 إلى 2018. أما في كوستاريكا، فقد تم التوقيع على ميثاق مجتمعي لتنفيذ ورصد وتقييم أهداف التنمية المستدامة في عام 2016 من قبل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في البلاد، وكذلك من قبل مجموعة من أصحاب المصلحة غير الحكوميين ومنها كيانات المجتمع المدني والجامعات العامة والقطاع الخاص. 

 

 

من المبادئ إلى التنفيذ 

يتوقف تحقيق أهداف التنمية المستدامة في نهاية المطاف على قدرة الموظفين المدنيين ومهاراتهم القيادية في التغلب على الطبيعة المعقدة لأهداف التنمية المستدامة، وكذلك على قدرتهم على تفعيل مبادئ الحوكمة والتزامات السياسات. ففي عالم سريع التغير، تكتسب الخدمة العامة ذات الاحترافية والمقدرة والتجاوب أهمية أكبر من أي وقت مضى في توفير القيمة وزيادة ثقة المواطنين في مؤسساتهم العامة. وفي إطار استراتيجيات تحقيق أهداف التنمية المستدامة، تحتاج الحكومات إلى تعديل ممارساتها الإدارية لتواكب واقعاً اقتصادياً واجتماعياً وبيئياً متزايد التعقيد، وأن تحسن استغلال الموارد والقدرات البشرية بأكثر الطرق فعالية. 

 

ويحتاج الموظفون المدنيون على جميع المستويات وفي جميع المؤسسات إلى اكتساب مهاراتٍ ترتقي بهم إلى ما هو أبعد من بيئة التشغيل التقليدية وتتحداهم ليفكروا ويتصرفوا بأساليب جديدة متداخلة التخصصات. كما يحتاجون إلى تعلم كيفية تطبيق أدوات وأساليب جديدة في ابتكارات القطاع العام والتفكير المنهجي المبني على الأنظمة، وتصميم السياسات التجريبية؛ وأن يطوروا أساليب قيادية تشجع التعاون لمواجهة تحديات السياسة المعقدة والشاملة والمتصلّبة التي تفرضها أهداف التنمية المستدامة. كما أن تحديد مهارات الموظفين العموميين وتعضيدها أمر جوهري لضمان قدرة الحكومات على تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وتقتضي ضرورة تنفيذ أهداف التنمية المستدامة بذل جهود منهجية وغير متحيزة ومستدامة لتدعم القيادة الحكومية. 

 

منصة عالمية لدعم السياسات والتنفيذ بغية تحقيق أهداف التنمية المستدامة 

في سبيل مساعدة الدول على شحذ المهارات ورفع الكفاءات القيادية لحوكمة أهداف التنمية المستدامة، أطلقت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في 25 سبتمبر 2019 ما أسمته "المنصة العالمية لحوكمة أهداف التنمية المستدامة"، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. وتعد هذه المنصة العالمية بمثابة منصة معرفة عبر شبكة الإنترنت تستفيد منها الدول والمؤسسات وتزود الحكومات بالأدلة والدعم العملي حسب الحاجة. كما ستوفر للخبراء والممارسين الوطنيين بغية التفاعل والتعلم من بعضهم البعض والتشاور بشأن حل مشكلات الحوكمة. وسيتوجه دعم هذه المنصة حسب أولويات وظروف كل دولة، كما سيشرك الجهات الحكومية وأصحاب المصلحة، بما في ذلك الدوائر الحكومية المحلية، في حوار لبناء كفاءات الحوكمة الفعالة لأهداف التنمية المستدامة. وعبر هذه الشراكة، تستعد منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لدعم الدول بهدف المسارعة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

 

 

 

 

سارة فيسون هي رئيس وحدة التنمية المستدامة في إدارة الحوكمة العامة بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.

كارينا ليندبرغ هي محللة السياسات في وحدة اتساق السياسات بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حيث تدعم العمل في الآليات المؤسسية وآليات الحوكمة من أجل اتساق السياسات والنهج المتكاملة لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة. اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.

إرنستو سوريا موراليس هو كبير محللي السياسات في وحدة اتساق السياسات بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية منذ عام 2010. اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.

 

المراجع: 

 

  1. "الحوكمة كمسرع لتحقيق أهداف التنمية المستدامة: خبرات وأدوات الدول" Governance Experiences Country: Accelerator SDG an as Tools and ،منظمة التعاون االقتصادي والتنمية )2019:  https://doi.org/10.1787/0666b085-en
  2. ".تماسك السياسات لتحقيق التنمية المستدامة في 2019 :تمكين الشعوب وضمان الشمولية والمساواة" Sustainable for Coherence Policy and People Empowering: 2019 Development Equality and Inclusiveness Ensuring ، منظمة التعاون االقتصادي والتنمية )2019: https://doi.org/10.1787/a90f851f-en
  3. .the around Goverments Subnational Finance and Structure: World ،منظمة التعاون االقتصادي والتنمية/منظمة المدن والحكومات المحلية المتحدة،2016: https://www.oecd.org/regional/regional-policy/Subnational-Governments-Around-the-World-%20Part-I.pdf
  4. شبكة حلول التنمية المستدامة )2016″ ،)البدء في تحقيق أهداف التنمية المستدامة في المدن: دليل أصحاب المصلحة" with Started Getting ,Stakeholders for Guide A – Cities in SDGs the Network Solutions Development Sustainable: 
    http://unsdsn.org/wp-content/uploads/2016/07/9.1.8.-Cities-SDG-Guide.pdf
  5. .مجموعة أدوات تماسك السياسات لتحقيق أهداف التنمية المستدامة: http://www.oecd.org/governance/pcsd/toolkit/#d.en.377019

المصادر: 

[1] يستند هذا المقال إلى إسهامات كل من سارة فايسون وكارينا ليندبرغ وإرنيستو سوريا موراليس في مطبوعتي منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية: "الحوكمة كمسرع لتحقيق أهداف التنمية المستدامة: خبرات وأدوات الدول" Governance as an SDG Accelerator: Country Experiences and Tools (2019)؛ و"تماسك السياسات لتحقيق التنمية المستدامة في 2019: تمكين الشعوب وضمان الشمولية والمساواة" Policy Coherence for Sustainable Development 2019: Empowering People and Ensuring Inclusiveness and Equality (2019). 

[2] انظر: Governance as an SDG Accelerator: Country experiences and tools، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (2019)

[3] انظر: Policy Coherence for Sustainable Development 2019: Empowering people and ensuring inclusiveness and equality, OECD، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (2019)

[4] نظر توصيات مجلس تناسق السياسات لأهداف التنمية المستدامة: Recommendation of the Council on Policy Coherence for Sustainable Development, OECD, 2019

[5]انظر: Getting Started with the SDGs in Cities: A Guide for Stakeholders، شبكة حلول التنمية المستدامة، 2016.

[6] انظر: Subnational Governments around the World: Structure and Finance، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية/منظمة المدن والحكومات المحلية المتحدة، 2016.

المقالات المرتبطة
image
أمة الذكاء الاصطناعي: التبني المتسارع للذكاء الاصطناعي من خلال "رشاقة" صنع السياسات - الإمارات نموذجاً
image
كيف يمكننا بناء الاقتصاد الرقمي العربي؟ نحو مخططٍ استراتيجي
image
صياغة المستقبل الرقمي للعالم العربي - خارطة طريق السياسات، نحو أجندات وطنية
image
كيف تطبّق سياسات عامة مؤثّرة حقاً؟ مجموعة أدوات عملية لصانع السياسات
image
كيف نعكس موج التنمية في العالم العربي؟ نحو سياسات مرتكزة على البيانات، تسارع بنا نحو أهداف التنمية المستدامة
image
مستقبل المدن - ما الذي يمكن أن يتعلمه صناع السياسات من مقاييس المدن الذكية؟
image
هل يمكن للحكومة الرقمية أن تُسارِع تحقيق أهداف التنمية المستدامة؟
image
ممارسات حكومية مبتكرة.. توجهات عالمية للعام 2019
التعليقات

التعليقات 0

انضم إلى المحادثة