من مفارقات العصر الحديث، أن نفس تلك المنظومات التي أسفرت عن تحديات معقدة وفريدة من نوعها بالنسبة للحكومات العالمية، تمثل هي ذاتها مصدراً زاخراً بالحلول لتحديات وقضايا المستقبل. وتقوم الحكومات حالياً، في شتى بقاع العالم، بابتكار حلول إبداعية من خلال إطلاق مختلف المبادرات، بما في ذلك بناء وتوسيع نطاق البرامج الوطنية لإصدار الهويات الرقمية التي ستكون حجر الأساس لما سيأتي من الخدمات الإلكترونية المُبتكرة، وتشجيع ودعم الأفراد والشركات على التعبير الرقمي عن هوياتهم (الشخصية والتجارية) الفريدة وإثراء النقاشات والمباحثات المتمحورة حول الهوية القومية والوطنية في عالم تتلاشى حدوده يوماً بعد آخر؛ إلى احتضان منهجيات النُظُم وعوامل مُمكّنة من شأنها إحداث تحول جذري في الطريقة التي تُقدَّم بها الخدمات، وإطلاق عمليات ابتكار تستهدف تحويل وإعادة ترتيب العمليات الحكومية الداخلية وشؤون عملها بطرق عابرة للقطاعات والمؤسسات؛ إلى جانب توفير شروط أفضل للشمولية وحماية الفئات الهشّة من المجتمع، بهدف التصدي للمشكلات المعقدة الحالية منها والمستقبلية، وبغية خلق عالم يسع الجميع ويحتضن كافة الفئات ويتسم بتكافؤ الفرص بين أفراده في ظل سعيهم للرقيّ بمستوى حياتهم. لكن كيف تقوم هذه الحكومات بكل ذلك؟

 

الحكومة في العصر الرقمي: التحديات غير المسبوقة والفُرص الكبيرة الواعدة
تتسم البيئة السياسية والوضع الاقتصادي في الوقت الراهن بالتعقيد والتغير بوتيرة سريعة. ويمر المجتمع الحالي بعملية تحوّل غير مسبوقة تنبثق عنها مشاكل ومسائل تمثل تحديات لكل من النُظُم القائمة ووجهات النظر السائدة بشأن كيفية سير العالم وطريقة حُكمه. بهذا الصدد، لا تكتفي التقنيات الناشئة بزعزعة الوضع الحالي الراهن وحسب، بل تقوم أيضاً بتغيير الأفكار والمفاهيم المسبقة المتعارف عليها وتخلق مستقبلاً يلفه الغموض واللايقين. فقبل عشر سنوات، عندما تم إطلاق هاتف الآيفون لأول مرة، وكانت منصة تويتر في أيامها الأولى، وشركة أوبر لمّا تدخل حيز الوجود بعد، لم يكن هناك إلا ثلّة من الناس التي كان بمقدورها توقع شكل عالمنا اليوم المترابط والمتشابك والمتصل بشدة بين أجزائه، حيث أصبح غالبية سكانه يستخدم شبكة الإنترنت عبر الهاتف المحمول بشكل يوميّ.

أدى هذا الترابط والتشابك المتصل إلى تسريع وتيرة العولمة، والتي كانت أصلاً سريعة، مما أدى على مزيدٍ من التغيرات البنيوية التي تتطلب ردود فعلٍ من الحكومات، فضلاً عن حركات الاحتجاجات الحادة الناجمة عن الاستياء الشعبي من -والسخط على- اتساع فجوات اللامساواة في جميع أنحاء العالم. وفي الوقت الراهن، هناك شعور عام واسع الانتشار يطال العديد من البلدان، فحواه أن المنافع التي أتى بها هذ العالم المتصل بكثافة والمتميز بوتيرة التغير السريعة، تصبّ فقط في صالح فئة صغيرة جداً من سكانه.

من ناحية أخرى، شهدت الغالبية العظمى من البلدان المتقدمة أعلى معدلٍ لها من اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء منذ ثلاثة عقود مضت. واليوم، يجني ما نسبته 10% من الفئة السكانية الأغنى في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ما يقارب عشرة أضعاف ما تجنيه الفئة الـ10% الأفقر من دول المنظمة، وهي نسبة تزيد سبع مرات عما كان عليه الحال في الثمانينات. والشواهد الاقتصادية تشير إلى أن المشكلة في تفاقم مستمر، والوضع يمضي نحو الأسوأ، حيث تسجل التقارير أن ثمانية رجال فقط يديرون ثروة ضخمة الحجم جداً لدرجة أنها تساوي مجمل ثروات النصف الجنوبي من الكرة الأرضية. لا عجب إذاً أن يؤدي هذا الوضع إلى زلزلة ثقة الناس بالمؤسسات والهيئات النظامية، ويضعضع إيمانهم بمنافع ومزايا عالم تسوده العولمة. وفي الوقت الحالي، سجلت الاستطلاعات أن المواطنين الذين يثقون بحكوماتهم لا تتجاوز نسبتهم 43%، وهذه النسبة في تدنٍ مستمر، مع شعور عام ينتشر بثبات فحواه أن الحكومات لم تعد قادرة على حماية المصالح العليا لشعوبها.

وهذا الوهن في إيمان الناس بقدرة الحكومات على التصدي للتحديات العالمية يساهم بنصيبه أيضاً في إضعاف المبادرات الحكومية الرامية إلى التعامل مع الموجات القادمة من التغيير. فالتغير التقني وآثار العولمة، مجتمعين، يعيدان تشكيل مفاهيم أساسية مثل العمل والهدف من الحياة الإنسانية وسُبُل كسب العيش، حيث تقدّر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن 10% من الوظائف في الدول المنضوية تحت المنظمة معرّضة لمستوى كبير من خطر الأتمتة، في حين أن ما نسبته 25% أخرى من مهام القوى العاملة ستتغير بشكل جذريّ بسبب الأتمتة.

من جانب آخر، يسهم الحراك الديموغرافي في دفع عجلة هذا التحول أيضاً، حيث يضم النسيج السكاني للعالم الآن نسبة غير مسبوقة من فئة الشباب، ومع ذلك شهدت نسبة هذه الفئة في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية انخفاضاً على مدى السنوات الخمسين الماضية، الأمر الذي سيؤدي إلى نتائج واضحة على مستوى الإنفاق بين الأجيال على المعاشات التقاعدية والرعاية الصحية والتعليم. كما تواجه العديد من البلدان كذلك تزايد عدد المسنين فيها، الأمر الذي يزيد من حدة الضغط على الكثير من البرامج الحكومية والتفاعلات الاجتماعية.

لا يفوتنا أيضاً أن نشير إلى الضغوط التي تسببها الهجرة، التي تعد عاملاً يزيد من تفاقم الوضع. حيث أن هناك أعداداً قياسية من الناس تغادر أوطانها قسراً بسبب الصراعات أو أعمال العنف أو بسبب العوامل البيئية مثل التغير المناخي، وتشير الإحصائيات إلى رقم يتجاوز الـ 1.5 مليون طلب لجوء جديد سجلتها البلدان المنضوية تحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للعام 2016 مقارنة بالعام السابق.[1] وكما لا يخفى ينجرّ عن هذا الاتجاه ضغط كبير على الحكومات يفرض عليها تكييف خدماتها العامة لضمان احتواء الجميع دون تفرقة.

ونظراً لسعة نطاق التغيير، وحجم التحول المصاحب له، والغموض الذي يلفّ المستقبل، لم يبق أمامنا إلا التسليم بحقيقة واحدة هي أنه ما من طريق للعودة. فالعالم يشهد معدل تغيير متسارع يمضي بوتيرة استثنائية. والضغوط تتزايد وتتراكم بشكل ملّح مما يحتّم على الأفراد والبلدان والحكومات أن تُسائل الوضع الراهن وأن تناقش السبل الممكنة للمضي قدماً. وهنا تبرز ضرورة إيجاد مقاربات ومنهجيات جديدة لضمان إتاحة الفرص لجميع الناس للرقيّ بحياتهم نحو الأفضل في جميع جوانب الحياة: النفسية والاقتصادية والصحية، في ظل اقتصاد رقمي مُعولم باستمرار. وليس أمامنا للمضي قدماً في درب مستقبل شامل تزدهر فيه الإنتاجية والوفرة، إلا عبر تحديث البنى والنُظُم والهياكل السابقة، والأهم من ذلك، تمكين ورعاية الابتكار.

 

 

 

تتمثل رسالة مرصد الابتكار في القطاع العام التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في كونه منتدىً لتبادل الدروس المستفادة والرؤى الثرية في مجال الابتكار الحكومي وممارساته المُثلى.[2] ومنذ العام 2014، عمل المرصد على تلبية متطلبات البلدان والمدن من مختلف أنحاء العالم، حيث مثل المرصد مصدراً جماعياً يوفّر للمطلع عليه تصفح وجمع وتحليل طُرق ومنهجيات جديدة لتصميم وتنفيذ السياسات والخدمات العامة. وفي عصرنا الحالي الذي تتزايد فيه مستويات التعقيد وتتسارع فيه وتيرة التغير، كل ذلك تحت ضغوط مالية كبيرة، تحتاج الحكومات إلى فهم واختبار وتنفيذ طرق جديدة لإنجاز الأمور. في هذا السياق، يعمل مرصد الابتكار في القطاع العام على تزويد الموظفين في القطاع العام برؤى جديدة ومنابع معرفة حديثة وأدوات مبتكرة وجهات اتصال خبيرة تساعدهم على اكتشاف الفرص الواعدة والإمكانيات المستقبلية.

وبهدف تعزيز رسالته والتعلم من المبتكرين الرائدين، أبرم مرصد الابتكار في القطاع العام شراكة مع مركز محمد بن راشد للابتكار الحكومي (MBRCGI) في حكومة الإمارات العربية المتحدة،[3] إذ يعمل هذا المركز على تحفيز ثقافة الابتكار وإثرائها ضمن الحكومة. وقد أسفر عن هذه الدعوة إلى الابتكار 276 مشروعاً مبتكراً في 58 دولة.

وبناءً على مراجعة عالمية شملت بحوثاً موسعة ودعوة مفتوحة للابتكارات لاستطلاع الطريقة التي تعتمدها الحكومات للابتكار كاستجابة منها للتحديات الهائلة التي يواجهها عالم اليوم المعقد، وجدنا ثلاثة اتجاهات رئيسية للابتكار في القطاع العام هي:

 

كيف تبتكر الحكومات؟ اتجاه السياسات والتوجهات المبتكرة
الهوية

تعد الهوية شرطاً أساسياً بالنسبة للأفراد والشركات للحصول على الخدمات الحكومية والمشاركة في المجتمع، وأداة لا غنى عنها بالنسبة للاقتصاد والحكومات لفتح آفاق الفرص الواعدة من الخدمات الجديدة المبتكرة. وتعمل الحكومات وشركاؤها على الابتكار بغرض تصور طرق جديدة لتوفير هويات الأفراد والشركات من خلال التقنيات الناشئة. كما تساعد المواطنين أيضاً على إظهار مزيج فريد من المعرفة والمهارات، والخبرات التي تشكل هوياتهم الشخصية. وفي عالم مترابط ومتشابك تتلاشى حدوده يوماً بعد آخر، شرعت هذه الأطراف بمسائلة المفاهيم التقليدية للهوية الوطنية وتوسيع آفاق ما الذي يعنيه مثلاً أن تكون "مواطناً" أو تكون "مقيماً". وأثناء مضيّ البلدان في تطبيق هذه البرامج الجديدة للهويات، استعانت هذه الحكومات بمجموعة متنوعة من الابتكارات في كلٍّ من مجال القياسات الحيوية (الأدوات البيومترية) والبلوكشين، وعملت في ذات الوقت على التخفيف من مخاطر اختراق الخصوصيات. كما بذلت هذه الحكومات جهدها لتمكين الأفراد من التعبير عن هوياتهم الفريدة من خلال معايير مفتوحة (مجموعة مواصفات مفتوحة للعموم تَصف الميزات الأساسية). ومن ناحية أخرى، شجعت تلك الحكومات النقاشات المتمحورة حول الهوية الوطنية والهوية التجارية والهوية الشخصية. وفيما يلي أربعة نماذج من هذه البرامج الحكومية الخاصة بالهوية:

برنامج "أدهار" — يعد البرنامج، والذي يأخذ مسماه من كلمة تعني "الأساس" في العديد من اللغات الهندية، أكبر برنامج هوية بيومتري في العالم كله. حيث تمكن البرنامج منذ إطلاقه سنة 2009، من تسجيل نحو 1.2 مليار مواطن هندي ومقيم (العدد الذي يمثل 15% من سكان العالم)، بما في ذلك أكثر من 99% من العدد الإجمالي للبالغين الهنود. وفي هذا البرنامج، يعطى كل مسجّل فيه رقم تعريف شخصي فريد يتكون من 12 رقماً، ويدرج في قاعدة البيانات صورته وبياناته الحيوية بشكل بصمات للأصابع ومسحِ لقزحية العين. صُممت هذه المبادرة في الأصل لمساعدة الحكومة في جهودها للحدّ من عمليات الاحتيال والإسراف وسوء الاستخدام في برامج المنافع الاجتماعية من خلال ضمان تقديم تلك المنافع والمزايا للأشخاص المناسبين فقط، إلا أن المبادرة نمت في نهاية المطاف لتشمل العديد من أبعاد الحياة اليومية في الهند، مثل تضمين المعاملات المصرفية وتفعيل أرقام الهاتف المحمول. ومع توسع البرنامج، نما معه الجدل حوله، بما في ذلك القرار البارز للمحكمة الهندية العليا الذي صدر شهر نوفمبر 2017، والذي أقرّ ولأول مرة في التاريخ، بالخصوصية كحقّ أساسي من حقوق الإنسان، الأمر الذي قد ينجرّ عنه آثار تطال برنامج "أدهار".

من ناحية أخرى انتهج البلجيكيون طريقة مختلفة لتنفيذ برامج الهوية حيث ركزوا فيها على كيفية استخدام الناس لمناهج التعليم المستمر لتعزيز معارفهم وتطوير قدراتهم طوال حياتهم. حيث كان المواطنون سواءً في المدارس والجامعات أو أثناء التدريب العملي أو في فترة مسيرتهم المهنية أو حياتهم الشخصية، يواصلون النمو والتطوير الذاتي واكتساب قدرات ومهارات جديدة. ومع ذلك، لم يكن أمام المواطنين هناك إلا خيارات معدودة لإبراز وعرض مهاراتهم، التي تتعدى ما تمثله الشهادات الرسمية. والأمثلة عن هذه المهارات تشمل الدبلومات والشهادات الجامعية ووثائق الخبرة العملية، أو الآراء غير المتحقق منها وغير المفصلة، مثل تزكيات شبكة لينكد إين. وفي عام 2016، أطلقت الوكالة الاتحادية البلجيكية "سيلور" [4] مبادرة "شارات بلجيكا" [5] وهي منصة رقمية تمكّن أصحاب العمل من المؤسسات والشركات، والمدارس ومراكز التدريب من منح اعتراف رسمي بالمهارات والخبرات التي اكتسبها موظفوها من الأفراد (حيث يمنحون في المنصة شاراتٍ تفيد بالمهارة المكتسبة). ومن ثم بمقدور حاملي الشارات مشاركة ما يتقنون من مهارات بشكل رقمي مع الآخرين، واستعراضها في سوق العمل، وبمقدور أصحاب الشركات والمؤسسات ووكالات التوظيف الوصول إلى المنصة والبحث عن موظفين جدد يتمتعون بالمهارات المطلوبة.

وكمثال ثالث، بغية حماية الهويات التجارية، قامت "آي بي أستراليا"، الوكالة الحكومية المكلفة بحقوق الملكية الفكرية في أستراليا، بإطلاق محرك بحث خاص بالعلامات التجارية الأسترالية،[6] وذلك بهدف مساعدة الشركات التجارية على الازدهار والنمو في الاقتصاد العالمي، وللتمييز والتفرقة بين العلامات والهويات التجارية للشركات من غيرها في نفس القطاع أو في قطاعات مختلفة.[7] ولكي ندرك أهمية مجال حقوق الملكية الفكرية، تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 87% من قيمة الشركات التجارية تعود إلى أصولها غير الملموسة، بما في ذلك الهويّات البصرية والعلامات التجارية المسجلة التي تمثل هوية الشركة، حيث أن العلامة التجارية الجيدة تعتبر طريقة ممتازة للتعرّف على منتجات الشركة أو خدماتها في الأسواق. وبالاستعانة بتقنيات شركة "تريدمارك فيجن" الثورية في التعرف على الصور عبر الذكاء الاصطناعي، وفّر محرك بحث العلامات التجارية الأسترالية الأمن اللازم للشركات التجارية بحماية أهم أصولها، ويشير الخبراء إلى أن هذه المنظومة قابلة للتطبيق والنشر على مستوى عالميّ.

على جانب آخر، وبغية حماية سلامة بيانات الهوية، وضعت إستونيا نموذجاً فريداً من خلال مبادرة "إي إستونيا" (إستونيا الرقمية).[8] ونظراً لأن معظم المعاملات الحكومية لا تتم بالأوراق وتُجرى بشكل إلكتروني في تلك الدولة، تعتمد إستونيا اعتماداً كبيراً على منظوماتها المعلوماتية والبيانات المخزنة فيها. ومن أجل حماية بياناتها، طوّرت إستونيا مفهوم "سفارات البيانات"، وهي عبارة عن أجهزة خوادم (سرفرات) خارج البلاد، لكنها قانونياً خاضعة لحكم السلطات الإستونية. هكذا وعندما يقع حادث يتسبب بمشكلة في بيانات الدولة محلياً، تستطيع إستونيا الوصول إلى النسخ الرقمية لأهم قواعد البيانات المخزنة خارج البلاد، مما يوفر الأمان لهذا الشريان الحيوي الرقمي لتلك الدولة الشمالية الصغيرة. وقد قطعت إستونيا شوطاً معتبراً في سعيها لتصبح "دولة دون حدود"، وما "سفارة البيانات" إلا واحدة ضمن عدة برامج إستونية تطمس الخطوط الفاصلة وتمحي الحدود المرسومة وتزعزع مفهوم الهوية القومية والسيادية في العالم الرقمي.

يعدّ توفير هويات رقمية موثقة ومصادق عليها تمكّن المواطنين من إجراء معاملات موثوقة، خطوة أساسية في درب إنشاء خدمات حكومية حديثة ومبتكرة، والمضي قدماً نحو اقتصادٍ ومجتمعٍ رقميين. كما أن مساعدة الناس على جعل هذه الهويات الافتراضية أكثر مطابقة لشخصياتهم الحقيقية وما أنجزوه في حياتهم، بالشكل الذي يرونهم هم مناسباً، من شأنه أيضاً فتح الأبواب أمام إمكانات جديدة وفرص واعدة كثيرة. تستطيع الشركات كذلك الاستفادة من برامج الهوية من خلال تصميم هويتها الفريدة المميزة، وبمقدور الحكومات المساهمة في تحقيق ذلك من خلال توفير أدوات جديدة تساعد الشركات على النجاح في البيئات الاقتصادية الجديدة. ويمكن للحكومات أيضاً الاستفادة من طبيعة عالم اليوم التي تتسم بالاتصالية والتشابك من خلال إعادة التفكير في المفاهيم الأساسية التقليدية مثل مفهوم "الحدود" ومفهوم "الهوية".

 

 

إلى أي مدى يمكننا تعظيم الاستفادة من البرامج الحكومية المتعلقة بالهوية، في ظل الحالات والأمثلة التي ذكرناها آنفاً؟ إجابة على السؤال

 نقدم هنا بعض التوصيات:

1. اعمل على تطوير برنامج هوية يتناسب وثقافة البلاد التي سيطبق فيها. لا يجب أن ننسى الحقيقة المعروفة بأن ما يصلح لبلدٍ ما قد لا يصلح لغيره. لذا لا بد على الحكومات أن تدرس -وتثمّن- البيئات الثقافية التي تضمها أراضيها، ومن ثم تحدد المنهجية الأفضل لإنشاء واستخدام برامج الهوية. فعلى سبيل المثال، أنشأت المملكة المتحدة برنامج هوية وطنية بيومتري سنة 2008، وأصدرت بطاقات الهوية لآلاف الأشخاص، إلا أن البرنامج ألغي سنة 2010 لاعتبار أنه يشكل "انتهاكاً حقيقياً للحُريات المدنية" (Kirk, 2010). والآن تقوم المملكة المتحدة، من خلال برنامجها "غوف دوت يو كي فيرفاي" (GOV.UK Verify)، ببناء حلول تقنية للهوية أكثر ملائمة للبلاد تضع مفاهيم وقيم الخصوصية بعين الاعتبار وتأخذها بالحسبان. ومع أن كافة البلدان بمقدورها -بل وينبغي عليها- أن تنشئ برامج للهوية الرقمية لتتيح لمواطنيها الاستفادة من الخدمات الرقمية التي توفرها الحكومة (القطاع العام) أو الشركات (القطاع الخاص). إلا أنه ما من طريقة أو مقاربة واحدة نموذجية يمكن اعتبارها الأفضل بلا جدال لإنشاء برنامج للهوية الرقمية. لذلك لا بد على كل بلد أن يحدد بنفسه المنهجية المُثلى التي تعكس بشكل صحيح ومناسب قيمه الوطنية.

2. تأكد أن تكون المفاضلات بين السلبيات والإيجابيات مفهومة بوضوح من قبل السكان. حتى مع انتهاج المبادئ الواردة في التوصية السابقة، ما من مفرّ أمام الحكومات للقيام ببعض التنازلات (المفاضلة بين ميزة وأخرى) أثناء إنشائها لبرنامج الهوية. لذلك يُعدّ التشاور مع الشعب، بمختلف الطرق، عنصراً أساسياً لتحديد نقاط المفاضلة تلك، ولكي تصل لكل فئاته (مواطنين ومقيمين) القرارات المتخذة بشأنها.

3. عند التفكير بالهوية، تخطى تلك المفاهيم التقليدية. تنطوي الهويات الشخصية منها والتجارية وحتى الوطنية على العديد من الأبعاد والجوانب. لذلك يتعين على الحكومات أن تدرس الطرق التي من شأنها ضمان قدرة المواطنين والمقيمين على التعبير عن كافة جوانب هويتهم الحقيقية بشكل فعّال، والاستفادة منها والتمكن من فعل المثل (أي التعرّف بوضوح على جوانب الهوية والاستفادة منها) في هويات الآخرين. على سبيل المثال: فكر في حالة هيئة وطنية تود توظيف المواطنين أو جمعية خيرية تبحث عن متطوعين. وفي ظل مضيّ العالم إلى طريق لا عودة منه من الاتصالية والتشابك المتزايدين بالاستمرار، نلحظُ أن المفاهيم الوطنية بدأت تفقد شيئاً فشيئاً بعض الجوانب من أهميتها. لا ينبغي على البلدان أن تخشى من هذا التوجه، بل عليها أن تدرس تأثيراته وتستكشفه بل وحتى تغتنم الفرص التي قد تنجر عنه.

4. استخدم المعايير مفتوحة وواجهات برمجة التطبيقات (APIs) لتوسيع آفاق الفرص الواعدة. فمع أن الهوية يمكن أن تُعرّف بأنها تلك المجموعة الفريدة من المواصفات التي تصنع الإرث الفردي أو التجاري أو حتى الوطني. إلا أنه يمكن النظر إليها أيضاً بصفتها منصة للوصل بين الناس وبناء علاقات وروابط مُؤسَسة على الثقة في بيئة اقتصادية حديثة. ولذلك يمكننا استخدام المعايير المفتوحة وواجهات برمجة التطبيقات، مثل معيار "الشارات المفتوحة" المطبق في مبادرة "شارات بلجيكا"، أو واجهات برمجة التطبيقات المفتوحة (APIs)، المطبقة في برنامج "أدهار" في الهند، وذلك لإنشاء خدمات جديدة، بناء على الهوية متخذين إياها كحجر أساسٍ لصرحٍ رقمي أكبر، ما يتيح تحفيز الابتكار بصورة ونطاق غير مسبوقين من قبل.

 

منهجيات النُظُم والعوامل المُمكّنة
بدايةً تُعرّف "منهجيات النُظُم" على أنها أساليب لتحليل المشكلات تقوم على مقارنة الأجزاء المتّصلة بعضها ببعض، وأن كلّ جزء ينبغي أن يكون له دور بتحقيق أو "صنع" مساهمة متميّزة، بالنسبة للغرض أو الهدف الكلّي للمنظومة بكاملها. وتتيح لنا منهجيات النُظُم اتخاذ خطوة نحو الوراء ومشاهدة كامل عمليات الحكومات كنظام موحد مترابط بدل قطع أو نقاط منفصلة، مما يمكننا من فهم وتقييم المفاضلات (بين الخيارات المتاحة) التي يجب اتخاذها للمضيّ قدماً. هكذا تعمد هذه المدخلات إلى تحويل وإعادة ترتيب العمليات والمناهج الأساسية مما يؤدي إلى تغيير كيفية عمل الحكومة بشكل يجعلها شاملة وعابرة لحدود الهيئات وصلاحياتها والقطاعات ومجالاتها، وفي ذات الوقت إشراك كافة الجهات الفاعلة المعنية داخل وخارج الحكومة. وخلال القيام بذلك، تستخدم الحكومات عدداً من الأدوات وتهيئ الظروف المواتية لتحقيق الأهداف المرجوة بنجاح. إن المناهج الحكومية الأكثر ابتكاراً لا تكتفي بتكديس إجراء إصلاحي فوق الآخر، بل تعيد تشكيلها وترتيبها بطرق تتيح لها أن تحقق الهدف الحقيقي المقصود من التحول الأساسي.

في هذا السياق، يعتبر نظام "آبيكس"[9] المطبق في سنغافورة من بين أنجح هذه النُظُم. فهو يُعدّ منصةً تشمل كافة العمليات الحكومية، وتوفر مجموعة من واجهات برمجة التطبيقات (APIs) تتيح للوكالات والهيئات الحكومية مشاركة بياناتها وخدماتها مع غيرها من الهيئات والوكالات الحكومية والشركات والمؤسسات الخاصة. وهكذا ييسر نظام آبيكس إجراءات التواصل بطريقة تمكن مختلف البرامج الحكومية من التحاور والتواصل مع بعضها البعض (وهذا هو الغرض الأساسي من واجهة برمجة التطبيقات)، الأمر الذي يؤدي إلى إرساء حوكمة واحدة موحدة، ويرفع من مستوى التناسق والاتساق ويحقق أداءً موثوقاً عالي الجودة. ويفتح هذا النظام الباب أمام الابتكار من خلال فهرس مركزي عام وبوابة خدمات ذاتية تمكّن المبتكرين من اختيار الإجراءات العامة الخاصة بإنشاء خدمات وتجارب جديدة للمواطنين. بالتالي يتصدى نظام آبيكس لأحد أكبر التحديات النظامية التي تواجه الحكومات في عصر ما قبل "تعلّم الآلة من الآلة"، والذكاء الاصطناعي، أي القدرة على العمل المشترك ما بين البيانات والنظام.

أما النموذج الآخر على هذه النُظم الناجحة فيتمثل في نظام "بريديكتيف"،[10] وهو منصة إلكترونية بريطانية مخصصة لإطلاق وإدارة التجارب السلوكية. تمكّن هذه المنصة الحكومة من إجراء تجارب عشوائية مضبوطة (RCTs)، مع مجموعة من المشاركين عبر الإنترنت، وتتيح لها أيضاً اختبار ما إذا كانت السياسات والتدخلات الحكومية الجديدة ناجحة أم لا قبل تطبيقها في العالم الواقعي. بعد مرحلة تصميم قصيرة لهذه التجارب، لا تتجاوز الاختبارات فترة تتراوح من أسبوع إلى أسبوعين لكي تكتمل، مما يمكّن صناع السياسات من الحصول على ردود وأجوبة على أسئلة كانت لتأخذ -بطرق أخرى- أشهراً طويلة (بل وحتى سنوات) للإجابة عنها. وعلى هذا النحو، يتضح لنا الإمكانية الواعدة لمثل هذه البرامج على تغيير أساليب عمل الحكومات بشكل جذريّ. ومع أن ضيق الوقت وطبيعة البيئة السياسية تصعّب بعض الأحيان من إجراء "تجارب ميدانية" حول تدخلٍ حكومي أو سياسةٍ طور التنفيذ، إلا أن برنامج بريديكتيف يجعل إجراء التجارب أكثر سهولة ويسراً. لكن مع ذلك، لا زال علينا الانتظار لنرى ما إن كان برنامج بريديكتيف سيطلق شرارة تحول ثقافي أوسع نطاقاً في الدوائر الحكومية والمكاتب التنظيمية التابعة للدولة فيما يتعلق بتغيير طرق تصميم السياسات وسير العمليات.

من جانب آخر، قامت الحكومة الكندية، باختبار عدة نماذج لتوظيف وتعبئة المواهب في القطاع العام في ظل هذا العصر الرقميّ. ويتمثل المشروع الأكثر طموحاً من بينها في مشروع "سحابة المواهب الحكومية الكندية"، الهادف إلى أن يصبح مستودعاً موثوقاً، يمكن للجهات المعنية من شتى القطاعات البحث فيه عن المواهب المناسبة وتوظيفها. يمهد هذا المشروع الطريق أمام سوق رقمية تفتح الباب أمام الموظفين والعمال للحصول الحقوق والمزايا التي يوفرها التمثيل النقابي، وفي ذات الوقت التمتع بالحرية في اختيار العمل داخل أو خارج الحكومة، حسب الحالة. كما يعتبر المشروع أيضاً خروجاً عن النموذج التقليدي للتوظيف الدائم في القطاع العام، لأنه يرتب ويصنف المواهب والمهارات وفق ما يقتضيه العمل في المنصب المعين (اختيار الموهبة والمهارات المناسبة للمشروع الحكومي المناسب). ومع أنها لا زالت في مرحلة التصور والتجريب، إلا أن هذه المبادرة أسفرت عن عدة مشاريع فرعية مشتقة منها حققت بذاتها نجاحاً مميزاً. أحد هذه المشاريع هو برنامج "الموظفين المتنقلين"، الذي صُمم في الأصل كتجربة أولية للعناصر الأساسية التي يتكون منها مشروع سحابة المواهب الكندية. لكن في حين أن برنامج "الموظفين المتنقلين" أصبح برنامجاً قابلاً للتوسع، لا يزال مشروع سحابة المواهب الحكومية في طور التطوير وهو حالياً في مرحلة التصميم.[11]

 

 

نوصي عندما تشرع الحكومات في رسم منهجيات النُظم الخاصة بها بما يلي:

1. ركّز على المشكلة وليس على طُرق حلّها. هناك طيف متنوع من أساليب النُظُم المتاحة التي تتراوح بين المنهجيات الكمّية جداً إلى تلك النوعية جداً. لذا من الأهمية بمكان تشخيص المشكلة والفجوة المعرفية قبل اختيار طريقة لحلها. وليس مستغرباً أن نجد أن منهجيات النُظم المتبعة في الحلّ متعددة الأوجه، ذلك أنها مُصممة للتعامل مع التعقيد، بالتالي ما من عيب في طلب مشورة الخبراء والمختصين. بل أنه في الواقع، لا بد أن تسعى الحكومة لطلب حتى مشورة ومساعدة غير الخبراء، لأنه لا يمكن سبر كامل أبعاد المشكلة وتحديدها بدقة دون إشراك كافة الأطراف المعنية بها. لذلك من الأفضل أن نخصص المزيد من الوقت في البداية لفهم المشكلة التي بين أيدينا بصورة أعمق، ولتحديد أبعادها بشكل أشمل، بدل أن نحصر أنفسنا في حلّ واحد منذ البداية.

2. استخدم أدوات جديدة لتشخيص المشكلة. كلما أصبحت البيانات أكثر قابلية للعمل في بيئات مختلفة، ازدادت قدرتها على عكس ما يحدث فعلاً في الوقت الحقيقي. من هنا يمكن أن يؤدي استخدام الأدوات الجديدة في تشخيص المشكلة –سواء الرقمية منها أو تلك القائمة على أساليب البحث الإثنوغرافية- إلى نتائج ممتازة ،ليس فقط في الحصول على وجهة نظر مختلفة للمشكلة المعقدة المعنية، بل كذلك كوسيلة للربط بين مختلف الأفراد والثقافات والهيئات. فالوصل بين النقاط المختلفة بشكل رقميّ، أو إنشاء شخصية عامة افتراضية (ذات هوية متكاملة) بإمكانها مخاطبة كافة الجماهير، من شأنه إضفاء المزيد من الشرعية على مبادرات الحكومة مما يؤدي إلى تحقيق المزيد من التغييرات التحولية داخل المؤسسات والهيئات.

3. حلّل الآثار الشاملة المحتملة على النظام وثمّن عالياً التضحيات الناتجة عن الابتكارات. كما هو معلوم، ما من طريقة مثالية خالية من أي خطأ أو عيب. فكلما اندرجت الابتكارات أكثر في النظام المعني، خلقت في طريقها المزيد من المستفيدين من مزاياها والمحرومين من فوائدها. ولذلك لا بد على المشرف على هذه الأنظمة تحليل وتحديد القيم العامة التي تسعى تلك الابتكارات لخلقها، وما هي التنازلات التي لا مناص منها، وما الذي يحدث بالفعل على أرض الواقع، وما هي آثاره الراجعة على عملية التصميم (ما يدعى أحياناً بأثر الفراشة).

4. تقبّل التغييرات الجديدة الناشئة من القاعدة إلى القمة. لا تأتي كل التغييرات في الأنظمة من القيادة العليا التي تطلق المشاريع والمبادرات، بل قد تأتي أحياناً من أحد زاويا إحدى الهيئات الحكومية أو تنطلق من مكتب أحد الموظفين العاديين في القطاع العام أو تنبثق حتى من عمل أحد المبرمجين المتعاقدين مع الحكومة. لذلك يعتبر إدراك واكتشاف الفرص الواعدة الكامنة في الأشياء والمهام الصغيرة، وفسح المجال لها للنمو، مهارة قيادية لا غنى عنها. لذلك على القادة والمدراء بأن يكونوا هم المحفزين والراعين للمبتكرين ضمن بيئات عملهم ومؤسساتهم.

5. عليك بإجراء تجارب التغير التحويلي داخل الحكومة. ينبغي على الحكومات أن تكون هي المثل المحتذى لشعوبها. وبهذا الصدد، يمكن أن يؤدي إجراء التجارب وفق منهجيات النُظم ضمن المهام الإدارية الخلفية للحكومة، إلى إرسال موجات ارتدادية أفقية عبر كافة أقسام الحكومة الداخلية والخارجية ويمتد صداه حتى يصل القطاعات الأخرى ومن ثم مختلف شرائح المواطنين. من الوارد ألا يكون الحل الحكومي المتخذ هو الحل المثالي، إلا أن ذلك ليس مبرراً لعدم التجريب، بل يتعين على الحكومات أن تتحلى بالشجاعة وأن تجرّب.

 

 

 

شمول الفئات السكانية الهشة

في ظل سعيها للتصدي للتحديات العابرة للقطاعات والمؤسسات، كالهجرة مثلاً، وتزايد عدد المسنين، والمخاوف المتنامية بشأن ضبابية مستقبل العمل واستيلاء الأتمتة على الوظائف، واستمرار اتساع فجوات اللامساواة الاقتصادية بين الجنسين وبين الطبقات، تلجأ الحكومات حالياً إلى الابتكار لبناء مجتمعات أكثر شمولاً لا تقصي فرداً أو فئة أو شريحة مجتمعية. وفي الوقت الحالي تسعى الحكومات متحدة إلى تحقيق "أهداف التنمية المستدامة"، وإيجاد سبل جديدة لإرساء المساواة بين الجنسين وبين الطبقات المجتمعية، وتيسير الظروف المعيشية والاقتصادية للمهاجرين وتسهيل عملية انتقالهم. كما أن بضع حكومات أيضاً تسعى لإيجاد طرق لتحضير مجتمعاتها وشعوبها للتصدي لتحديات المستقبل. ومع أن الطريق أمام هذه الحكومات لا يزال طويلاً وممتداً، ومن الوارد أن تصادف في طريقها العقبات والمطبات والعراقيل، إلا أن الحكومات تعمل بهمة ونشاط على إنماء الشمولية في مجتمعاتها وبذل ما في وسعها للاستعداد لمفاجآت المستقبل. فالعالم اليوم يمرّ بمنعطف حاسم، يُحتّم على الحكومات أن تقرّ بالواقع الجديد الذي تجلى في حياة شعوبها والذي مسّ مختلف القطاعات الاقتصادية، ومن ثم خلق الحلول الجديدة التي تناسب الجميع، اعتماداً على الابتكار.

في هذا السياق، يمثل التصدي لمشكلة تنامي عدد المسنين في النسيج السكاني تحدياً خاصاً تعاني منه العديد من الدول الآسيوية، حيث بادرت عدة دول من المنطقة وأطلقت مبادرات تهدف إلى تحضير هذه الفئة من السكان للتقدم التقني والعولمة والتغيرات السكانية التي لها آثار واضحة على أسواق العمل.[12] ومع أن مشكلة تزايد عدد المسنين وأتمتة الوظائف -وهي التوجهات الكبرى للعقد القادم- ستأتي معها بفرص عظيمة واعدة، إلا أنها لن تخلو من المنغصات والتحديات أيضاً. كيف لمنهجية التعلم مدى الحياة والمشاركة الدائمة في سوق العمل أن تنجحا في ظل تلاشي فرص العمل؟ أضف إليها أن احتياجات سكان المناطق الحضرية حديثي التقاعد تختلف كثيراً عن احتياجات الأجيال السابقة. وتشكل هذه التوجهات تحدياً بالنسبة لأسواق العمل وأنظمة المعاشات التقاعدية والسياسة الاجتماعية بشكل عام، وتضع عبئاً مالياً كبيراً على الدول التي تطبق نظام الرعاية الاجتماعية.

ولذا تحاول حكومة العاصمة سيول التصدي لهذه التحديات من خلال مبادرتها المسماة "الخطة الشاملة لمن هم فوق الخمسين" (التي تعرف بسياسة سيول +50). وتوفر سياسة "سيول +50" للمسنين مناهج خاصة لتعلم فن العيش في هذا العصر، بما في ذلك الدعم العاطفي، والتجارب الثقافية، إضافةً إلى إعادة تدريب السكان حديثي التقاعد لمواصلة الحياة الاجتماعية. وكجزء من هذه المبادرة، قامت سيول بإعادة تعريف مفهوم "العمل" في القرن الحادي والعشرين.

في ظل تسبب التغير المناخي والاضطرابات المدنية التي تخلق اضطرابات كبرى في الأمريكيتين، كما في باقي أنحاء العالم، يمثل برنامج "الشمول المالي للمهاجرين" مبادرةٌ مبتكرةٌ للخدمات المالية والتي توفر الحسابات المصرفية وغيرها من أشكال الدعم لمجموعةٍ فريدة من المهاجرين، هي المواطنين المكسيكيين العائدين إلى وطنهم من الولايات المتحدة في خضمّ مناخٍ سياسي لفّ حياتهم بقدرٍ كبيرٍ من الغموض واللايقين. وبهدف مساعدة هؤلاء المواطنين، قام مصرف الادخار الوطني والخدمات المالية "بانسيفي"، وهو مصرفٌ إنمائي أسسته الحكومة الفيدرالية بهدف الوصول إلى الفئات السكانية الهشة، بافتتاح 11 فرعاً للخدمات في أماكن ومواقع استراتيجية على طول الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، بالإضافة إلى فرع في مطار مدينة مكسيكوسيتي لتزويدهم بالخدمات المالية والتعليم، الذي يعد شرطاً أساسياً للعودة إلى وطنهم.

من جانب آخر، يعتبر "مختبر آسكر للرفاه"[13] في النرويج، الذي يستند إلى مقاربة استثمارية تعتمد مفهوماً جديداً لتقديم الخدمات التي تركز فقط على المواطن، حيث تقوم جميع إدارات الخدمات البلدية ذات الصلة، جنباً إلى جنب مع الشركاء الخارجيين (الذين يشكلون معاً فريق الاستثمار) بالاستثمار معاً في رعاية ورفاهية المواطن، بحيث يعامل المواطنون وفق منهجية المختبر بصفتهم مستثمرين لا مجرد عملاء أو مستهلكين. ويهدف المختبر إلى رفع سقف معيشة الأفراد من الفئات الهشة، وبالتالي تحسين جودة حياة كل فرد وعائلة من المشاركين في البرنامج. أما النقطة المميزة في هذا البرنامج فهو إلزام الخبراء بالتعاون مع المواطنين الذين يريدون تغيير حياتهم، وذلك وفق مبدأ "لا ينبغي أن يُتخذ قرار بشأني دون إشراكي". علماً أن استثمارات القطاع العام هذه تُراقب عن كثب من خلال أشكال جديدة من التقارير المالية، التي تتركز على تحقيق النتائج.[14]

يعدّ بناء مجتمع أكثر شمولاً وضمان حماية الفئات الضعيفة والهشة من أهم التحديات التي تواجهنا حالياً. وكما لاحظنا تقوم الحكومات والبلدان في شتى أنحاء العالم باتخاذ خطوات مبتكرة، غالباً ما تكون معاييرها موحدة على الصعيد العالمي، للتصدي لتلك التحديات. وعلى الرغم من أن ضمان المساواة بين جميع الأفراد يتطلب الكثير من الإجراءات والتركيز المتواصل، إلا أن من شأن التوصيات التالية مساعدة الحكومات على إرساء الأسس والروابط اللازمة للتصدي لمشاكل الحاضر والمستقبل من خلال ما يلي:

1. التواصل مع المجتمعات الدولية لدفع عجلة التقدم على قدم المساواة. لم يسبق للعالم أن كان بمثل هذا الترابط والاتصالية، كما لم يشهد من قبل تحديات معقدة إلى هذا الحدّ. لذلك لا يمكن للحكومات أن تعمل بمفردها على تحقيق مبادرات عالمية مثل "أهداف التنمية المستدامة". لأن التصدي لتلك التحديات وتحقيق تلك الأهداف تتطلب خطة موحدة على مستوى دوليّ. بالتالي، ينبغي على الحكومات بجميع مستوياتها أن تتواصل مع المجتمعات الدولية القائمة وأن تشارك فيها بفعالية، مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والأمم المتحدة، بالإضافة إلى المجتمعات الجديدة التي يتم تأسيسها لحلّ مشاكل لم يتم التصدي لها بعد، وذلك على سبيل المثال، من خلال التواصل والتعاون مع الجهات الفاعلة غير الحكومية كالمجتمع المدني والقطاع الخاص. إن الحكومات لن تستطيع "تعزيز اتساق السياسات من أجل تحقيق التنمية المستدامة"، كما هو منصوص عليه في المقصد 14 من الهدف 17 ضمن أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، إلا إن ظافرت جهودها معاً وتعاونت مع بعضها البعض.

2. ضمان احتواء جميع أفراد المجتمع واستشارتهم في عملية وضع السياسات وتقديم الخدمات. غالباً ما يطغى صوت أفراد المجتمع الذين شاركوا في تقديم آرائهم حول عمل الحكومة منذ زمن طويل، على أصوات الفئات المهمشة والأكثر ضعفاً في المجتمع. لذلك ينبغي على الحكومات بجميع مستوياتها أن تسعى لفهم آراء وتجارب وظروف جميع أفراد المجتمع الذين تطالهم سياساتها وخدماتها. ويمكن تحقيق ذلك من خلال آليات رسمية كبرى مثل إعداد الميزانية وفق النوع الاجتماعي، أو الخدمات المتمركزة حول المستخدم كما رأينا آنفاً في دراسة حالة مختبر "آسكر" للرفاه في النرويج. وحريّ بالذكر أن الحكومات في حال رسمت سياسات واستحدثت خدمات من دون فهم راسخ لجميع أنواع الأفراد المستهدفين، فإن جهودها لن تكفي لحلّ المشكلة.

3. المباشرة فوراً في الاستعداد لدعم الجيل المقبل من الفئات السكانية الهشة. من الوارد أن تفقد الحكومات تركيزها على التحديات المستقبلية نظراً لكثرة القضايا التي يجب التصدي لها في الوقت الحاضر. بهذا الصدد، بمقدور الحكومات المباشرة بالابتكار حالياً لبناء أسسٍ لدعم الفئات السكانية الهشة مستقبلاً، بما فيهم الأفراد الذين قد يفقدون وظائفهم أو سبل عيشهم نتيجة الأتمتة. الأمر الذي سيؤدي إلى تخفيف وقع التحول عند حدوثه وتلطيف حدته. في هذا السياق، من شأن الرؤى الاستشرافية والتحليلات المستقبلية مساعدة الحكومات على تحديد التحديات الوارد نشوئها، وتسليط الضوء على الإجراءات التي يمكن للحكومات اليوم اتخاذها استعداداً لتلك التحديات. [15]

 

المُضيّ قُدُماً

يمرّ العالم بلحظة تاريخية صعبة ومليئة بالتحديات، حيث تسهم التقنيات الثورية والعولمة والتفاوت الاقتصادي، مجتمعةً، في جعل تحديات القطاع العام أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. ويشكل هذا التعقيد السمة الأساسية لمعظم مشاكل سياسات العصر الحالي، حيث تتشابك خصائصها بطرق متعددة يصعب تحديدها، مما يعزز الحاجة الملحّة لابتكار أدوات جديدة تساعد الحكومات على التصدي لهذه المشاكل والتحديات. وتعد هذه الاتجاهات المذكورة هنا جزءاً من حركة ناشئة تعتبر الابتكار بمثابة النظام الجديد للحكومة. وقد أثبتت الكثير من الابتكارات الحكومية التي تمت مناقشتها في هذه الدراسة أنه يمكن تحقيق تأثيرات ملحوظة ونتائج واعدة من خلال الربط بين مختلف الخدمات والنُظُم والأشخاص التي كانت منفصلة قبلاً.

 

جيمي بيريهيل هو خبير متخصص في الابتكار لدى مرصد الابتكار في القطاع العام (OPSI) في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.

بيريت تونوريست هي قائدة فرق العمل المتخصصة في فِكر الأنظمة، وقياس الابتكار، والحوكمة الاستباقية لدى مرصد الابتكار في القطاع العام التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.

 

المصادر:

[1] راجع www.oecd.org/newsroom/oecd-calls-on-countries-to-step-up-integration-efforts-for-migrants-and-refugees.htm

[2] يعد مرصد الابتكار في القطاع العام جزءاً من مديرية الحوكمة العامة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية: راجع www.oecd.org/gov

[3] انظر www.mbrcgi.gov.ae

[4] كانت الوكالة الاتحادية البلجيكية سيلور (Selor)، وكالة مستقلة تابعة للحكومة الاتحادية البلجيكية، مكلفة، من بين أمور أخرى، بتعيين موظفي الخدمات العامة على جميع المستويات الحكومية (الاتحادية والإقليمية والمحلية) واسمها سيلور (Selor) مكوّن من دمج أوائل حروف كلمتين هما Selection (الاختيار) و Orientation (التوجيه). لكن هذه الهيئة دُمجت مؤخراً في مديرية الحكومة البلجيكية للتوظيف والتطوير في القطاع العام، ولم تعد موجودة كوكالة مستقلة.

[5] انظر www.bebadges.be

[6] راجع https://search.ipaustralia.gov.au/trademarks/search

[7] انظر أيضاً https://youtu.be/CKzx0mKt9PU لمشاهدة فيديو توضيحي.

[8]انظر https://e-estonia.com

[9] https://portal.apex.gov.sg (لا يمكن الوصول إليها إلا عبر الشبكة الداخلية). يمكنك تحميل الفيديو التعريفي بنظام أبيكس من هذه الرابط:

 https://drive.google.com/file/d/0B84-8GIFcQYKNVdmVVFMWHRVeWs/ view?usp=sharing

[10] انظر www.predictiv.co.uk

[11]يذكر أن برنامج "الموظفين المتنقلين" ومشروع سحابة المواهب الكندية أبرزا في معرض "ابتكارات الحكومات الخلاقة" ضمن فعاليات القمة العالمية للحكومات. راجع https://edge.worldgovernmentsummit.org

[12]طالع مشروع مستقبل العمل لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية: www.oecd.org/employment/future-of-work

[13]انظر www.asker.kommune.no/om-asker-kommune/innovasjon-i-asker/innovasjonsprosjekter

[14]أبرز مختبر "آسكر" للرفاهية النرويجي أيضاً في معرض "ابتكارات الحكومات الخلاقة" ضمن فعاليات القمة العالمية للحكومات 2018. راجع https://edge.worldgovernmentsummit.org

[15]راجع www.oecd.org/naec/reflection-and-horizon-scanning.htm

المقالات المرتبطة
image
أمة الذكاء الاصطناعي: التبني المتسارع للذكاء الاصطناعي من خلال "رشاقة" صنع السياسات - الإمارات نموذجاً
image
كيف يمكننا بناء الاقتصاد الرقمي العربي؟ نحو مخططٍ استراتيجي
image
صياغة المستقبل الرقمي للعالم العربي - خارطة طريق السياسات، نحو أجندات وطنية
image
كيف تطبّق سياسات عامة مؤثّرة حقاً؟ مجموعة أدوات عملية لصانع السياسات
image
حوكمة أهداف التنمية المستدامة - كيف يمكن قيادة دفة تحقيقها بأسرع ما يمكن
image
كيف نعكس موج التنمية في العالم العربي؟ نحو سياسات مرتكزة على البيانات، تسارع بنا نحو أهداف التنمية المستدامة
image
مستقبل المدن - ما الذي يمكن أن يتعلمه صناع السياسات من مقاييس المدن الذكية؟
image
هل يمكن للحكومة الرقمية أن تُسارِع تحقيق أهداف التنمية المستدامة؟
التعليقات

التعليقات 0

انضم إلى المحادثة