تجسِّد الاضطرابات الاجتماعية التي تعاني منها أميركا اللاتينية التطلعات المُحبطة لدى الطبقة الوسطى الضعيفة والمتنامية، التي تسعى للحصول على خدمات عامة أفضل ولمزيد من العدالة الاجتماعية. للوفاء بهذه التوقعات، ينبغي على البيروقراطيات أن تضع مصالح الناس أولاً، كما يجب على الحكومات أن تتمتع بقدرٍ أكبر من الرشاقة، بحيث تعيد صياغة العلاقات بين الدولة والمواطن في العصر الرقمي. لقد تصدّرت الحاجة للقضاء على البيروقراطية الأجندة السياسية في تلك المنطقة، ولكن لا زلنا بحاجة إلى ترابطٍ أفضل بين التنظيم والتبسيط والتحوّل الرقمي. وهذا لا يعني أن الشعب يسعى للتقليل من سلطة الدولة، بل للوصول إلى دولةٍ أفضل. وفي هذا السياق، يعتبر التحوّل الرقمي للحكومة جزءاً من الحل نحو استعادة الثقة، وتطبيق الحوكمة الرشيقة، وتعزيز أنظمة أكثر ذكاءً. ويمكن من سياق أمريكا اللاتينية الاسترشاد بثلاثة دروسٍ بارزةٍ لمناطق أخرى تواجه تحدياتٍ مشابهةٍ على صعيد التنمية والحوكمة، كالمنطقة العربية مثلاً.

 

"البيروقراطية هي فن تحويل السهل إلى صعب من خلال وسائل عديمة الجدوى"

كارلوس كاستيلو بيرازا، مفكِّر وسياسي مكسيكي (1947-2000).    

 

عصر الآمال الخائبة

 

"البيروقراطية هي فن تحويل السهل إلى صعب من خلال وسائل عديمة الجدوى"، كارلوس كاستيلو بيرازا، مفكِّر وسياسي مكسيكي (1947-2000).

 

"المشكلة ليست في 30 بيزو .. المشكلة في 30 عاماً". تعبِّر المظاهرات العنيفة في شوارع مدينة سانتياغو في جمهورية تشيلي عن استياء المواطنين في كثيرٍ من دول المنطقة، من الذين لم يطرأ تحسنٍ على حياتهم.[1] ففي حالة تشيلي، كانت زيادة رسوم استخدام المترو بمقدار 30 بيزو (أقل من نصف دولار أمريكي بعملة تشيلي المحلية) هي "القشة التي قصمت ظهر البعير". يقول المتظاهرون أنهم يشعرون أنهم عرضة للاستغلال والنسيان في ظل نموذجٍ اقتصاديٍّ مجحف، ترتفع فيه تكلفة المعيشة بشكل مستمر بينما يكون مصير طموحات المواطنين هو الإحباط وسط أجواءٍ من السخط السياسي.[2] أما الثقة في النظام فتقوِّضها "علاقة محرّمة" بين النخبتين السياسية والاقتصادية.

 

كبرت آمال الناس بوتيرةٍ أسرع من دخْلهم. وقد جاء "جيلٌ رقميٌّ" حضريٌّ أكثر طموحاً لحياة أفضل وأقل تحملاً للفساد، في وقتٍ أضحت فيه الأجيال الجديدة أسوأ حالاً من آبائها. وتعزز هذه التوجّهات أوجه عدم المساواة المترسخة في ما يتعلق بالدخل والوصول إلى الخدمات والحصول على الفرص. وقد لخّصت عبارةٌ نُشرت مؤخراً الوضع القائم في تشيلي على أنها "بلدٌ يمتلك دخلاً يضاهي الدول الغنية، وعدم مساواةٍ يضاهي الدول الفقيرة".[3] وفي غضون ذلك، على امتداد المنطقة، "ركّزت التحديات الاقتصادية غضب المتظاهرين على قضايا متعلقة كعدم المساواة والفساد. وقد كانت أميركا اللاتينية منذ زمن بعيد إحدى المناطق الأكثر تفاوتاً في المساواة على مستوى العالم، لكنّ الحدود التي يعتبرها الناس مقبولة لم تعد كالسابق".[4]

 

     تداعت قدرة الخدمات العامة في تلك المنطقة الأكثر تفاوتاً في العالم على توفير الحماية الكافية للمواطنين، وهذا ما ترتب عليه مخاطر متزايدة.[5] ويعكس القلق الاجتماعي في أميركا اللاتينية الطموحات المحبطة لدى الطبقة المتوسطة الضعيفة والمتنامية التي تتوقع الحصول على خدمات عامة أفضل من حكوماتها وعلى نزاهة أكبر من سياسيّيها. وعلى أي حال، "كان الحماس الدولي إزاء نمو الطبقة الوسطى مستنداً إلى مقاييس الدخل دون مراعاة مستوى الوصول إلى الوظائف أو الخدمات الرسمية أو توفر شبكة أمان اجتماعي".[6] وقد استنفذ هذا النموذج التنموي أنفاسه وبات من الواجب تغيير مساره. فعلى الرغم مما أحرزه من التقدم الاجتماعي المهم ومن قدرته على الحد من الفقر، إلا أنه عجز عن الوفاء بتوقعات المواطنين لحياةٍ أفضل، وفي المقابل أضر بثقة المواطنين في السياسيين.

 

 

منطقة مدمنة على التنظيم الحكومي

 

تعتبر أميركا اللاتينية متخلفة عن المناطق الأخرى من العالم من ناحية توفير بيئة ممكِّنة لممارسة أنشطة الأعمال، ما يشكِّل عقبة كبيرة أمام إنتاجيتها وقدرتها التنافسية. فعبء التنظيمات الحكومية وتفشي الروتين يقوِّضان العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين. كما أنهما يضعفان إنتاجية الشركات الصغيرة، التي تمثِّل النسبة الأكبر من النسيج الصناعي للمنطقة. وحسب تقرير البنك الدولي لعام 2020 حول مناخ الأعمال،[7] تعاني المنطقة من عبء التنظيمات الخانق، والذي يتجلى في عدد إجراءاتها البيروقراطية وتعقيدها. ولا يختلف أداء المنطقة عن أداء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بصرف النظر عن الاختلاف بين البلدان في داخل هذه المناطق.

 

سهولة ممارسة أنشطة الأعمال في مختلف المناطق (تقرير البنك الدولي حول ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2018)

المصدر: البنك الدولي، ممارسة أنشطة الأعمال  2018

 

 

لا يصنف أي بلد في المنطقة ضمن البلدان الخمسين الأكثر رشاقة في العالم، حيث تحتل تشيلي المرتبة 59، بينما تحتل المكسيك المرتبة 60 من بين البلدان التي شملها تقييم البنك الدولي ويبلغ عددها 190 بلداً. وفي البرازيل، التي يشتهر فيها اصطلاح "تكاليف البرازيل" ذو الدلالة السلبية،[8] يجب على الأعمال متوسطة الحجم أن تقضي 1,500 ساعة سنوياً للوفاء بالتزاماتها الضريبية، مقارنة بـ 159 ساعة، أي أقل بنحو عشرة أضعاف، في اقتصادات البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وفي كولومبيا، تقضي الشركة ثلاث سنوات بالمتوسط من أجل تنفيذ حكم المحكمة، وتصل التكاليف التي تتكبدها إلى 46% من رسوم التقاضي، أي أكثر من ضعفي المتوسط لدى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ويتوصل مؤشر المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يقوم بتقييم عبء التنظيمات الحكومية إلى نفس الاستنتاجات، ما يعبِّر عن تردّي الأداء في المنطقة في السنوات الأخيرة.

 

عبء التنظيم الحكومي (مقياس 1 – 7 الأفضل)

 المصدر: المنتدى الاقتصادي العالمي، تقرير القدرة التنافسية العالمية (جنيف: المنتدى الاقتصادي العالمي، 2019)، مقتبس من بوابة بيانات "تي سي داتا 360" التابعة للبنك الدولي[9]

 

 

وفي الوقت نفسه، تحتل المنطقة مكانة بارزة على صعيد الجهود التي تبذلها في علاج ذاتها. ففي العام الماضي، قام 21 من 32 اقتصاداً بتنفيذ 35 تدبيراً إصلاحياً لتبسيط التنظيمات الحكومية. وتتقدم كولومبيا بتنفيذ 37 تدبيراً إصلاحياً منذ عام 2005، مع 3 إصلاحات رئيسة في العام الماضي لتيسير عملية إنشاء الشركات. وفي الفترة الممتدة بين عامي 2003 و2018، أي على مدار 15 عاماً، أدخلت كولومبيا 34 تدبيراً إصلاحياً، وهو نشاط إصلاحي شبيه بما قامت به دولة الإمارات العربية المتحدة مثلاً.[10] وقامت الأرجنتين بتطبيق برنامج تبسيط مكثف ومنتج أدى إلى تسريع إصدار تراخيص البناء من خلال منصة إلكترونية، كما يسّر الوفاء بالالتزامات التي تتضمنها العقود من خلال توفير الدفع الإلكتروني للإجراءات القضائية.

 

 

المصدر: البنك الدولي، ممارسة أنشطة الأعمال  2018

 

كما تتدنى الأخلاقيات في المجال الضريبي على نحو لافت للنظر في منطقة بأمس الحاجة إلى حشد الموارد العامة لتمويل تنمية أكثر عدلاً من خلال ضرائب أكثر إنصافاً. فوفقاً للبنك الدولي، تعدّ أميركا الجنوبية لمنطقة التي يعتبر دفع الضرائب فيها الأكثر تعقيداً وتكلفة على مستوى العالم.[11] ومع معاناتها من كبر اقتصاداتها غير الرسمية (غير المنظمة)، تعاني المنطقة أيضاً من الإصرار على تجنب سداد الضرائب ونسبة كبيرة من التهرب الضريبي، الذي يحدث بعضه من خلال إعفاءات ضريبية إبداعية على نحو خاص. ووفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، رأى 52% من الأميركيين اللاتينيين في عام 2015 أنّ هناك ما يبرر تجنب الضرائب.[12] فقلة الثقة في الدولة تخفض تحصيل الضرائب، وفي المقابل يؤدي انخفاض تحصيل الضرائب إلى تفاقم أوجه الضعف المؤسسي ويحدُّ من قدرة الدولة على تقديم الخدمات.

 

تتألف المنطقة بشكل رئيسي من بلدان متوسطة الدخل، وهي واقعة في العديد من "أفخاخ" التنمية، ومنها ما تصفه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بـ "الفخ المؤسسي".[13] ويتمثل أحد أهم الدروس المستخلصة للعالم العربي من تجربة أميركا اللاتينية في أنّ الاقتصاديات الناشئة "تواجه أفخاخ تنمية جديدةٍ أثناء ارتقائها سلّم الدخل". فالمظاهرات الاجتماعية الأخيرة يؤجِّجها غياب العدالة الاجتماعية وانهيار العقد الاجتماعي الذي عجز عن مشاركة الثروة وضمان الرفاه الاجتماعي. ويفشل النظام الضريبي في العمل كآلية لتعزيز مساواة أكثر وقدر أكبر من التضامن، ما يفسر بقاء عدم المساواة على حالها تقريباً بعد الضرائب والتحويلات المالية، حسب مقياس مُعامل "جيني" (أحد المقاييس المهمة لعدالة توزيع الدخل القومي).

 

 

المصدر: مقتبس من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية – مصرف التنمية لأميركا اللاتينية – اللجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، "المشهد الاقتصادي في أميركا اللاتينية 2019: التنمية أثناء التحول"، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

 

إذاً ما زالت الغابة البيروقراطية تمثل نقطة الضعف الرئيسية لدى دول المنطقة. وتكمن المفارقة في أنّ أميركا اللاتينية هي المنطقة التي تمتلك القوانين الأكثر، وتعتبر في الوقت ذاته المنطقة الأقل احتراماً للقوانين. فتعقيد الإجراءات الإدارية وتقديرات الموظفين العموميين القائمين عليها تجعلهم عرضة بشكل خاص لتلقي الرشوة. وتميل البلدان ذات القوانين الأكثر إلى أن تكون الأكثر فساداً أيضاً.  فحسب تقريرٍ صدر مؤخراً عن مصرف التنمية لأميركا اللاتينية (CAF)، حول النزاهة في السياسات العامة،[14] صرّح واحدٌ من بين كل أربعة أميركيين لاتينيين أنه دفع رشوةً للحصول على خدمةٍ ما أو لتسريع إجراءٍ معين.

 

 

 

كيف يمكن النهوض بـ "الحوكمة الرشيقة" في ظل هذه الظروف؟

 

ما تحتاج إليه المنطقة هو العلاج بالصدمة للتعامل مع المخزون الهائل من القوانين والتدفق المستمر من القوانين الجديدة على حدٍّ سواء، بدلاً من الاكتفاء بتدابير إصلاحية مرحلية. فالإحباط الذي يعاني منه الأميركيون اللاتينيون الذين يتظاهرون في الشوارع موجّه أساساً ضد بيروقراطياتهم التقليدية المعقدة في عصر الثورة الصناعية الرابعة. فـ"ثقافة القوانين" التي تعتنقها الحكومات ترسّخ لديها اعتقاداً بأنّ أي مشكلةٍ مهما كانت، يمكن حلها من خلال خلق قواعد ومعايير. وبالتالي تأخذ الاستجابة لفضائح الفساد المتكررة شكلاً يعزز هذا المرض التنظيمي ، حيث يسن المشرِّعون المزيد من المعايير والضوابط. وعلى أي حال، يخلق غياب الطابع الرسمي عن المؤسسات فجوةً عميقةً بين القواعد الرسمية والممارسات غير الرسمية. ويجري التلاعب بالقواعد الرسمية بدلاً من احترامها.

 

التحول الرقمي لأجهزة الدولة يوفر فرصة الانتقال نحو تنظيمٍ أذكى ومستوى ابتكارٍ أعظم في الحكومة، وهذا ما يسميه المنتدى الاقتصادي العالمي بـ"الحوكمة الرشيقة  [15]". ويتطلب ذلك تغييراً في الثقافة القانونية للبيروقراطية، ما يضع المواطنين في قلب الأولويات ويعيد تصميم العمليات من وجهة نظرهم.

 

وأمام هذا الوضع، تسعى الحكومات في المنطقة إلى "القضاء على البيروقراطية" في الدولة، أي إعادة تنظيم وتيسير البيروقراطيات وتقليل الروتين وتعميم الابتكار.[16] ففي البرازيل، يعتبر "القضاء على البيروقراطية" مهمة محورية من مهمات وزارة الاقتصاد ذات السلطة الكاملة. وفي الإكوادور، دشّنت الحكومة برنامجاً طموحاً للإصلاح التنظيمي، من خلال سنّ قانون في عام 2018 لتبسيط الإجراءات الإدارية.[17] وفي غضون ذلك، حققت الأرجنتين تقدماً مهماً على صعيد التحول الرقمي للدولة، بينما مضت تشيلي إلى الأمام في سعيها لتكون دولةً "بلا معاملات ورقية ولا طوابير انتظار" من خلال المصادقة على قانون التحول الرقمي للدولة.[18]

 

تتمثل إحدى الاستراتيجيات الرئيسة لتبسيط الحكومة في تحويل الخدمات العامة إلى خدمات رقمية وتبسيط الإجراءات. وقد أطلقت البرازيل مؤخراً بوابتها الوحيدة للخدمات الرقمية (www.brazil.gov.br) وستقوم كولومبيا (www.gov.co) في توحيد خدماتها الخاصة لعام 2020، على خطى المكسيك (www.gob.mx) والبيرو (www.gob.pe) على غرار المملكة المتحدة وموقعها الريادي (www.gov.uk). وفي أورغواي، يمكن الآن بدء 68% من إجراءات الحكومة الوطنية وإكمالها عبر الإنترنت.[19] أما في تشيلي، فالهدف المعلن هو تحويل 80% من الإجراءات إلى إجراءات رقمية بحلول نهاية فترة الحكومة الحالية. ومن أجل المضي قدماً في هذا التحول الهيكلي، من المهم تحديث العناصر الداعمة ذات الصلة التي تشكِّل الأساس الذي تُبنى عليه الحكومات الرقمية والخدمات الرقمية. وتشمل هذه العناصر الداعمة على وجه التحديد إنشاء هوية رقمية واحدة، وقابلية التبادل بين منصات البيانات وأنظمة الدفع الإلكتروني.

 

من غير المفاجئ أن تتصدر هيئات الضرائب التحول الرقمي في بلدان كثيرة. إذ تساعد الحلول الرقمية على زيادة كفاءة تحصيل الضرائب وتقلل الاحتيال الضريبي. كما تساهم في زيادة الامتثال الطوعي من خلال تسهيل قدرة دافعي الضرائب على الوفاء بالتزاماتهم. فمثلاً، استحدثت العديد من البلدان أنظمة دفع إلكتروني وإقرارات ضريبية معبأة سلفاً. وعلاوة على ذلك، فإنّ رقمنة العمليات الضريبية وانتشار البيانات الضخمة وتوسّع تكنولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي هي أمور تمكِّن القدرات الرقابية لسلطات الضرائب عبر تطبيق آليات تنقيب البيانات وحلول تحليل الاحتيالات. ففي فرنسا وإسبانيا، تستخدم الإدارات المختصة بالضرائب الذكاء الاصطناعي لكشف الاحتيال الضريبي والتهرب الضريبي. وبفضل استخدام آليات تنقيب البيانات، زاد تحصيل الديون الضريبية بنسبة 40% في النصف الأول من عام 2019.[20]

 

وعلى أي حال، لا تعتبر الرقمنة كافية، ويجب على الحكومات أن تقوم بتبسيط الإجراءات. إذ لو كانت إحدى الإجراءات الإدارية غير مترابطة أو غير ملائمة أو حتى باطلة الصلاحية، فستبقى كذلك حتى لو أُضفي عليها الطابع الرقمي . وذلك هو السبب وراء تركيز مجموعة أخرى من التدابير الإصلاحية على تبسيط العمليات الإدارية وإعادة النظر في مبررات القوانين الحالية، من خلال تقييم مسبق لأثرها ومراجعة لاحقة لأهميتها. ويتطلب هذا إعادة النظر في الإجراءات البيروقراطية لتكون "رقميةً بالمبدأ"، ومراجعة مبرراتها وتقليل المتطلبات، والتي يعتبر الكثير منها قديمة في العصر الرقمي. توجد الكثير من استراتيجيات التبسيط التي تتراوح بين "المقصلة" التنظيمية التي تعدّ الأكثر صرامةً، والتي تُلغى فيها القوانين إذا لم يُعاد تأكيد الحاجة إليها خلال فترة زمنية محددة، كما هو الحال في البيرو، إلى استراتيجيات "التطهير التنظيمي" الأضيق نطاقاً، وإلى المراجعات اللاحقة للتنظيمات.

 

لقد تبنّت كولومبيا، على سبيل المثال، خريطة طريق لترشيد الإنتاج التنظيمي في عام 2014 للتعامل مع تدفق القوانين الجديدة. ووفقاً لتقديرات الحكومة نفسها، فإنّ كولومبيا التي تحتل المرتبة 123 من 141 على مؤشر المنتدى الاقتصادي العالمي للعبء التنظيمي، أصدرت نحو 30 قانوناً بشكل يومي في الفترة بين عامي 2010 و2016، بمجموع 95000 من القوانين والأنظمة والتشريعات الجديدة. ولهذا فهي ما زالت بحاجة إلى مبادرات "تنظيف تنظيمي" دورية مثل مبادرة "الدولة البسيطة، كولومبيا الرشيقة"،[21] والتي نجحت خلال السنة الأولى للحكومة الحالية بترشيد أكثر من ألف قانون وعملية.[22]

 

وتستلزم مجموعة أخرى من التدابير الإصلاحية بذل جهود لإصلاح السياسات التنظيمية والحوكمة. وغالباً ما تتطلب مثل هذه التدابير الإصلاحية فترة نضوج أطول، إضافة إلى رأس مالٍ سياسيٍّ كبيرٍ لوضعها وتنفيذها. وقد توّجت المكسيك عقدين من الإصلاحات في عام 2018 مع اعتماد القانون الاتحادي للتنظيم الذكي، بعد عشرين سنة من النقاشات والمفاوضات. إذ وضعت في عام 2000 كياناً اتحادياً مسؤولاً عن الحوكمة التنظيمية ودفع عجلة الإصلاحات التنظيمية على المستوى الاتحادي وعلى مستوى الولايات على حد سواء.

 

أحد الدروس المهمة للعالم العربي من هذه التجربة هو أنّه من العبث الترشيد من أعداد القوانين المطبقة حالياً إذا لم يتم التعامل مع المسببات الرئيسية للإفراط بإنتاج القوانين أصلاً . 

 

 

ماذا يمكن للبلدان العربية أن تتعلم من أميركا اللاتينية؟

"لو كانت إحدى الإجراءات الإدارية غير مترابطة أو غير ملائمة أو حتى باطلة الصلاحية، فستبقى كذلك حتى لو أُضفي عليها الطابع الرقمي"

 

تواجه الكثير من البلدان العربية تحديات عديدة على صعيد الحوكمة، وهي تحديات لا تختلف كثيراً عن تلك التي تواجهها حكومات أميركا اللاتينية. وهناك ثلاثة دروس مهمة يمكن للعالم العربي استخلاصها من التجارب المستمرة لأميركا اللاتينية في سعيها لوضع أنظمة حوكمة أكثر رشاقةً في وجه تحديات التنمية وتعقيداتها.

 

الدرس الأول هو أنّ على البيروقراطيات الحديثة جعل مَهمة تصميم السياسات التنظيمية أحد الوظائف الجوهرية للحكومة. وهذا ينطوي على وضع قواعد واضحة وقابلة للتنبؤ، بحيث يمكن تطبيق هذه السياسات بشكلٍ عادلٍ وموحد نظرياً. فتطبيق السياسة التنظيمية الحاكمة يتخذ أفضل الأشكال إن تمت إدارته من مركز الحكومة (عادةً من وزارة شؤون الرئاسة أو مكتب رئيس الوزراء)، بوصفها وظيفةٌ متداخلةٌ تتطلب دعماً سياسياً قوياً وتوجيهاً من أعلى الهرم، لتحقيق التناسق بين الممارسات التنظيمية للوزارات المتخصصة بقطاعات معيّنة.

 

تتطلب الحكومات الذكية تنظيماً ذكياً. وينطوي ذلك على ضبط إنتاج القوانين والتشريعات في بيروقراطيات كبيرة وهيئات مستقلة غالباً ما تقوم بالتنظيم بمعزلٍ عن غيرها. ويكمن أحد التحديات الرئيسة التي تواجهها الاقتصادات الناشئة في قدرتها على ترشيد القوانين على مستوى القطاع العام بأكمله، وعلى مستوى القطاعات المتخصصة وطبقات الحكومة المتعددة. ويتطلب تحقيق ذلك أن يقوم المسؤولون عن الإصلاح بمعالجة السبب الجذري لِفرط التنظيم. ففي كثيرٍ من الحالات يركّز هؤلاء على إصلاح مخزون القوانين القائمة بدلاً من ضبط تدفق القوانين الجديدة. وعلى الرغم من أنّ التحول الرقمي سيجعل القوانين الحالية أقل تعقيداً من خلال أتمتة العمليات، إلا أنه لن يضبط إنتاج القوانين الجديدة. وعلى أي حال، كما تشير الإصلاحات الأخيرة في الأرجنتين، فإنّ أتمتة العمليات والسجلات من شأنها أن تساعد الحكومات على فهم العقبات بشكلٍ أفضل لأنها تنتج رؤى جديدة مستندة إلى البيانات فيما يتعلق بوظيفة البيروقراطية. وفي تصميم الإجراءات البيروقراطية كإجراءات "رقميةٍ بالمبدأ"، لا تحتاج الحكومات إلى إعادة النظر فيها من وجهة نظر المستخدم فحسب، بل أيضاً إلى إنتاج معلوماتٍ أكثر وأفضل حول الوظيفة الفعلية لهذه الإجراءات.

 

الدرس الثاني هو أنّ الحوكمة الرشيقة تستلزم تنسيقاً أكبر بين كلٍ من التحوّل الرقمي، والتبسيط الإداري، والحوكمة التنظيمية . وهي وظائف أساسية للحكومة، إلا أن كلاً منها غالباً ما تتبع لجهات مختلفة لا تتوافق دوافعها وأجنداتها بشكل دائم. ولا يمكن لهذه التركيبة أن تستمر في عصر الزعزعة الرقمية.

 

إذاً التحدي القائم يتخذ طابعاً مزدوجاً. ويتطلب تنسيقاً بين هيئاتٍ عديدةٍ في مركز الحكومة لإدارة سياسةٍ تنظيميةٍ بالتزامن مع تبسيط الممارسات التنظيمية على مستوى الحكومة ذات البيروقراطيات المتشعبة، والكثير من الكيانات المستقلة، والشركات المملوكة للدولة، والهيئات الحكومية على المستوى المحلي ومستوى الولايات والمحافظات. وبعبارة أخرى، يتطلب التنظيم الذكي مركزاً استراتيجياً قوياً قادراً على إنفاذ نهُجٍ تشمل الحكومة بأكملها.

 

كما أن التحوّل الرقمي ذا الوتيرة المتسارعة يجبر الهيئات المركزية على التغيّر من أجل التكيّف مع الطابع المتقلب للاقتصاد الرقمي. فمن جهةٍ، يمكن لهذه الهيئات الآن الاستفادة من التكنولوجيات الجديدة والرؤى المستندة إلى البيانات لإنجاز وظائفها على نحوٍ أفضل. ومن جهة أخرى، فإنّ عليها تنظيم استخدام التكنولوجيات الجديدة والبيانات الضخمة في الاقتصاد الجديد. ويمكن القول أنّ تنظيم حوكمة البيانات في هذا الاقتصاد الجديد هو أكبر التحديات التي تواجهها تلك الهيئات، وخصوصاً فيما يتعلق بالتعامل مع البيانات واستخدام الذكاء الاصطناعي. وبالنسبة للاقتصادات الناشئة في العالم العربي وأميركا اللاتينية، يكمن التحدي في الحفاظ على أهميتها كلاعبٍ في الاقتصاد الرقمي العالمي وامتلاك دورٍ في تنظيمه.

 

ويتمثل أحد الدروس الأساسية التي يمكن اقتباسها من القلق الاجتماعي في أميركا اللاتينية في أنّ تبسيط الحكومة وجعلها أكثر رشاقةً ليس كافياً. إنّ التحول الرقمي للحكومة هو بلا شك جزءٌ من الحل على الطريق نحو تنظيمٍ أفضل وحكوماتٍ أذكى تستفيد من التكنولوجيات الجديدة والرؤى المستندة إلى البيانات بغية تطوير تصميم الخدمات العامة وتقديمها. وخلاصةً فإنّ الحكومات بحاجة إلى النظر إلى تحسين جودة الخدمات العامة والحد من عدم المساواة الاجتماعية من خلال منظور أشمل يقوم على تحقيق تنمية أكثر عدلاً.

 

 

كارلوس سانتيسو هو رئيس الابتكار الرقمي الحكومي في بنك التنمية في أمريكا اللاتينية. اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.

 

المصادر:

[1].باتريشو نافا، "الشغب في تشيلي: الإحباط على بوابة الأرض الموعودة" (Chile’s Riots: Frustration at the Gate of the Promised Land)، مجلة "أميركانز كوارترلي"، 21 أكتوبر/تشرين الأول 2019.

[2] روسيو مونتيز، "العوامل الرئيسة لمظاهرات تشيلي: قدْر الضغط ينفجر في الواحة" (Claves de las protestas en Chile: la olla a presión revienta en el oasis)، جريدة "إلباييس"، 21 أكتوبر/تشرين الأول 2019.

[3] جورج غالينغو، "بيانات لفهم أفضل للسبب الذي دفع تشيلي إلى الانفجار" (Los datos para entender major por qué estalló Chile)، جريدة "إلباييس"، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2019.

[4] مويزس نايم و بريان وينتر، "لماذا كانت أميركا اللاتينية مستعدة للانفجار" (Why Latin America Was Primed to Explode)، مجلة "فورين أفيرز"، 29 أكتوبر/تشرين الأول 2019..

[5] خافيير لافونتي، "عدم المساواة تملأ أميركا اللاتينية" (La desigualdad moviliza a América Latina)، جريدة "إلباييس"، 27 أكتوبر/تشرين الأول 2019.

[6] كريستوفر ساباتيني و أنار باتا، "مظاهرات أميركا اللاتينية من المرجّح أن تفشل" (Latin America’s Protests Are Likely to Fail)، مجلة "فورين بوليسي"، 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2019.

[7] البنك الدولي، ممارسة أنشطة الأعمال 2020، واشنطن العاصمة: البنك الدولي، 2019.

[8] تشير "تكاليف البرازيل" (custo Brasil) إلى التكاليف التشغيلية المرتفعة المرتبطة بممارسة أنشطة الأعمال في البرازيل، ما يجعل البضائع والخدمات البرازيلية أغلى مقارنة ببلدان أخرى.

[9] قاعدة البيانات متاحة على الرابط: https://tcdata360.worldbank.org/indicators/govt.regu?country=BRA&indicator=689&viz=line_chart&years=2007,2017

[10] البنك الدولي، ممارسة أنشطة الأعمال 2018، واشنطن العاصمة: البنك الدولي، 2018. يعتبر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أقوى المناطق في تنفيذ إصلاحات لتيسير ممارسة أنشطة الأعمال في السنوات الأخيرة. وقد كانت اقتصادات منطقة الخليج نشطة بشكل خاص، حيث نفذت 35 تدبيراً إصلاحياً في العام الماضي. وتوجد أربعة اقتصادات في المنطقة من بين الاقتصادات العشر الأكثر تحسناً على المستوى العالمي.

[11] البنك الدولي و برايس ووترهاوس كوبرز، "دفع الضرائب 2019″ (Paying Taxes 2019)، واشنطن العاصمة: البنك الدولي، 2018.

[12] منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية – مصرف التنمية لأميركا اللاتينية – اللجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، "المشهد الاقتصادي في أميركا اللاتينية 2018: إعادة النظر في المؤسسات لتحقيق التنمية" (Latin American Economic Outlook 2018: Rethinking Institutions for Development)، باريس: منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، 2018.

[13] منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية – مصرف التنمية لأميركا اللاتينية – اللجنة الاقتصادية لأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، "المشهد الاقتصادي في أميركا اللاتينية 2019: التنمية أثناء التحول" (Latin American Economic Outlook 2019: Development in Transitions)، باريس: منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، 2019.

[14] مصرف التنمية لأميركا اللاتينية، "النزاهة في السياسات العامة" (Integrity in Public Policies)، بوغوتا: مصرف التنمية لأميركا اللاتينية، 2019.

[15] المنتدى الاقتصادي العالمي، "الحوكمة الرشيقة: إعادة تصور وضع السياسات في الثورة الصناعية الرابعة" (Agile Governance: Reimagining Policy-making in the Fourth Industrial Revolution)، جنيف: المنتدى الاقتصادي العالمي، 2018.

[16] كارلوس سانتيزو، "أميركا اللاتينية تبدأ في التخلي عن البيروقراطية" (América Latina comienza a destrabar la burocracia)، جريدة "إلباييس"، 3 فبراير/شباط 2017.

[17]انظر: https://www.gobiernoelectronico.gob.ec/ano-2018

[18]انظر:  https://www.gob.cl/noticias/presidente-pinera-presenta-la-agenda-de-modernizacion-del-estado-es-hacerles-la-vida-mas-facil-las-personas

[19]انظر:  https://www.gub.uy/agencia-gobierno-electronico-sociedad-informacion-conocimiento/comunicacion/noticias/tramites-linea-supero-meta-prevista-para-2018

[20]انظر: https://www.lefigaro.fr/conjoncture/fraude-fiscale-640-millions-d-euros-recuperes-grace-au-data-mining-20191023

[21] http://www.colombiaagil.gov.co

[22] انظر: http://www.colombiaagil.gov.co/noticias/estado-simple-colombia-agil-supera-la-meta-del-201

 

التعليقات

التعليقات 0

انضم إلى المحادثة