كيف تنجح الدول في تحقيق التحول الرقمي؟ ما هي المقاربات المثمرة عند تبني تقنيات تفرض واقعاً جديداً مثل الذكاء الاصطناعي على المستوى الوطني؟ يعدّ التحوّل الرقمي على مستوى الدولة مشروعاً رئيسياً يستدعي تدابير تنظيمية واجتماعية وسياسية ومالية وتكنولوجية معقدة. وقد علمتنا التجارب الحديثة أن مثل هذا المشروع لا يسفر دائماً عن النتائج المنشودة. والحق أن حالات فشل التحول الرقمي على المستويات الوطنية كانت أكثر خلال العقدين الماضيين من حالات النجاح. وبالنظر إلى هذا الواقع، يمكن للدول التي نجحت في شق طريقها عبر العصر الرقمي أن تقدم دروساً قيّمة للدول التي تدور في ذات السياق. وتعتبر دولة الإمارات نموذجاً يحتذى به فيما يتعلق بتبني التقنيات التي تحدث الفارق. ومن المسلّم به أنها وصلت إلى هذه المكانة من خلال رؤية وتفكير استراتيجي ووضع سياسات تتسم بالرشاقة. وعلى الرغم من أنها ما تزال في بداية رحلة طويلة، لم تخل من عقبات، إلا إن في تجربتها ما تقدمه لحكومات المنطقة الساعية إلى دمج تطبيقات الذكاء الاصطناعي في أنشطتها الحكومية عبر القطاعات المختلفة وعلى مدى اقتصادها الأوسع نطاقاً. [1]

 

تبنّت الإمارات منذ مطلع القرن الجديد رؤية طموحة نحو المستقبل، ركّزت على بناء اقتصاد تنافسي قائم على المعرفة. وفي جوهر رؤية الإمارات 2021 رغبة في احتضان وتسخير قوة التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي. ودعماً لهذه الرؤية، صاغت الحكومة استراتيجيات وخطط لدخول الثورة الصناعية الرابعة. ونتيجة لذلك، تأتي الدولة اليوم في المرتبة السادسة عالمياً لجهة تبني تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وفقاً لتقرير التنافسية العالمية للعام 2019.[2] وبشكل أكثر تحديداً، هي في المرتبة الأولى في المنطقة والمرتبة 19 على مستوى العالم على مؤشر الجاهزية الحكومية للذكاء الاصطناعي[3] . كما تأتي دبي في المرتبة الأولى عالمياً لجهة جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة لمشاريع الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وفقاً لتقديرات ملتقى الاستثمار السنوي (2019) [4]. فقد اجتذبت المدينة استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 21 مليار دولار في عمليات نقل التكنولوجيا المتطورة في الفترة من 2015 إلى 2018، مقارنة بالاتحاد الأوروبي (5.7 مليار دولار) والولايات المتحدة الأمريكية (3.9 مليار دولار) خلال نفس الفترة. وعملياً، كانت دولة الإمارات من أوائل الدول التي أعلنت عن استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي (أكتوبر 2017) مع طموح أن تكون رائدة عالمياً في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول العام 2031 .[5] وتسعى مستهدفات الاستراتيجية إلى دعم أداء الحكومة الذكية وكفاءتها على كافة الصعدة. وهي تشتمل على 8 أهداف: (1) أن تكون الدولة مركزاً عالميا لاستثمارات الذكاء الاصطناعي، (2) زيادة التنافسية في قطاع الذكاء الاصطناعي في الدولة، (3) تأسيس حاضنات لدعم الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي، (4) تبني أدوات وتقنيات الذكاء الاصطناعي للارتقاء بالأداء الحكومي وجوة الحياة، (5) جذب وتدريب الكفاءات والمواهب لوظائف المستقبل، (6) جذب الكفاءات الريادية في الذكاء الاصطناعي، (7) توفير بنية تحتية مستندة إلى البيانات لتجارب الذكاء الاصطناعي، (8) ورفع كفاءة حوكمة وتنظيم الذكاء الاصطناعي في الدولة.  

ومن المتوقع أن يكون للتحول الرقمي الذي تقوده تطبيقات الذكاء الاصطناعي تأثيره الهائل على المجتمع والاقتصاد الإماراتي. وقد أظهرت دراسة أجرتها الشركة الاستشارية برايس ووتر هاوس أن من شأن الذكاء الاصطناعي أن يسهم بمبلغ 96 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي لدولة الإمارات بحلول عام 2030 (حوالي 13.6 في المائة).[6] كما تقدر شركة أكسنتشر الاستشارية أن الذكاء الاصطناعي سوف يزيد من معدل النمو الاقتصادي في الإمارات بنسبة 1.6 في المائة بحلول العام 2035.[7] فالواضح أن المستقبل واعد. ويبقى السؤال: ما هي السياسات الأمثل لجني الفوائد المحتملة للتحول الرقمي القائم على الذكاء الاصطناعي؟

 

 

يصنع السياسات برشاقة

نعيش في عالم يتغير بإيقاعٍ متسارع ولنا أن نصفه بأنه "عالم فوكا"؛ وهو اختصار لأربع كلمات وصفية باللغة الإنجليزية هي: متقلب، غير مؤكد، معقد، وغامض. عالم جديد لم تعد تصلح فيه القوانين والقواعد القديمة. فالتقنيات المتقدمة في العصر الرقمي تفرض واقعاً جديداً على عالم الأعمال والصناعة. وحتى لا تتخلف الحكومات عن الركب، عليها أن تتنبأ بالمستقبل من خلال تصور ما سيكون عليه العالم ومن ثم تتكيف بالوتيرة نفسها، مع الحفاظ على مرونتها، خاصة في صياغة وتنفيذ سياسات متجاوبة. ويتمثل أحد تلك الأساليب في أن يتبنى صانعو السياسات منهجية "الإدارة الرشيقة للمشروعات" التي تستخدم في إدارة الشركات الناشئة والمشاريع البرمجية وسيلةً لتجربة وتطوير وصياغة السياسات من خلال منهج متكرر للتجربة والخطأ.[8] فالحقائق الجديدة تتطلب ابتكاراً متواصلاً في كيفية صياغة السياسات التي تحقق حوكمة المستقبل، مع وضع أطر للسياسات تستخدم عمليات رشيقة لتطوير سياسات مجهزة بشكل أفضل للتكيف والتغيير والنمو.[9] فعلى سبيل المثال، يتمثل أحد أساليب تحقيق ذلك في أسلوب البيئة التجريبية المحمية، أو ما يعرف بالـ"صندوق الرملي"، وهو نموذج جربته بالفعل حكومات مختلفة، ومنها حكومة الإمارات، للسماح بمقاربات تجريبية لتطوير السياسات، مع الحد من المخاطر. 

فكيف خطّت الإمارات طريقها على درب الذكاء الاصطناعي؟ جرى ذلك من خلال تطبيق مجموعة أدوات للسياسات العامة والتجاوب الرشيق من خلال البرامج التجريبية، وإعادة التنسيق الاستراتيجي، وإعادة الهيكلة التنظيمية، وغيرها من الأدوات.

 

 

مشاريع إماراتية تجريبية استطلاعية في الذكاء الاصطناعي

منذ الإعلان عن استراتيجية الذكاء الاصطناعى، بذلت الدوائر الحكومية في دولة الإمارات جهوداً كبيرة في دمج تطبيقات الذكاء الاصطناعي في العديد من الاستخدامات التي تتراوح بين عناصر آلية في مراكز الاتصال باستخدام روبوت الدردشة "تشاتبوت"، وتشخيص الأشعة السينية طبياً باستخدام تقنيات تعلم الآلة، ووصولاً إلى تجارب سيارات الأجرة ذاتية التحكم. ونجد مثلاً أن "راشد"[10] الوكيل الافتراضي في مراكز الاتصال يقدم إجابات رسمية عن أسئلة العملاء حول الإجراءات والمستندات والمتطلبات اللازمة لإجراء المعاملات المختلفة في إمارة دبي. وقد طورت الخدمة في مختبر الذكاء الاصطناعي في دبي، وهي مبادرة تقودها دائرة دبي الاقتصادية بالتعاون مع مكتب دبي الذكية وشركة آي بي إم، وذلك باستخدام تقنية واطسون للحوسبة المعرفية. وهذا المشروع بحد ذاته نموذج جيد على سياسة دبي لتشجيع التعاون بين الدوائر الحكومية والقطاع الخاص من خلال إقامة شراكات بين القطاعين العام والخاص، باعتبار ذلك أحد عوامل النجاح للمبادرات على مستوى المدن. وبدأت هذه الخدمة كمبادرة رائدة بين ثلاثة كيانات في عام 2017 ولكنها تطورت لتصبح مبادرة على مستوى المدينة تضم كيانات القطاعين العام والخاص التي ترغب في نقل معلوماتها من خلال تطبيق "راشد". وقد تم تدريب خوارزمية "راشد" لتجيب على أسئلة تتعلق بالحياة والعمل في دبي، بما في ذلك مواضيع مثل بدء عمل تجاري والتجول في المدينة والتراخيص والحصول على تأشيرة أو إقامة وتصديق جوازات السفر والشهادات والتسوق وغير ذلك المزيد. وصمم التطبيق بحيث يتعلم ويتطور ويحسّن من مستوى خدماته بشكل ذاتي. ويمكن التواصل معه بلا انقطاع على مدار الساعة عبر الدردشة الصوتية أو النصية باللغتين العربية والإنجليزية عبر أي قناة إلكترونية ومنها "دبي الآن"، وهو تطبيق الهاتف الذكي الموحد للوصول إلى الخدمات الحكومية في دبي. ويعتبر تطبيق "راشد" عملياً ومريحاً وهو يوفر الوقت والجهد، ويتوقع أن يقلل عدد الوكلاء العاملين في مراكز الاتصال بما يعني تقليل التكلفة وتبسيط العمليات. 

نموذج آخر يتمثل في مركبات الأجرة ذاتية القيادة في دبي، وهي تجربة تعد الأولى في المنطقة. ونفذت هذه التجربة هيئة الطرق والمواصلات بالشراكة مع واحة دبي للسيليكون؛ منطقة التكنولوجيا الحرة ومختبر تجارب لأحدث التقنيات، ودي جي ورلد لتطبيقات الروبوت والذكاء الاصطناعي.[11] واختبرت مركبة الأجرة ذاتية التحكم بنجاح وهي جاهزة للعمل على طرق دبي. وبذلك تقترب هيئة الطرق والمواصلات بدبي خطوة أخرى نحو تحقيق أهداف استراتيجية النقل الذاتي التي تهدف إلى إجراء 25 في المائة من إجمالي رحلات المواصلات في عبر وسائل النقل ذاتية القيادة بحلول العام 2030. 

وتأتي الصحة ضمن مجالات تطبيق الذكاء الاصطناعي الهامة. فقد استفادت وزارة الصحة ووقاية المجتمع في الإمارات من الذكاء الاصطناعي في تشخيص بعض الأمراض مثل السل باستخدام خوارزميات تعلّم الآلة لفحص الأشعة السينية للصدر. فقد أطلقت وزارة الصحة برنامجاً تجريبياً في نوفمبر 2018 لاستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي في تشخيص الأشعة السينية للمرضى المشتبه في إصابتهم بالسل.[12] وتوضع الأشعة السينية في النظام التشخيصي الذكي، الذي يحدد ما إذا كان المريض مصاباً بهذا المرض أم لا. ويكمل النظام تشخيصات أطباء الأشعة ويمكن استخدامه للتحقق من صحة نتائجهم. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدامه ضمن إجراءات الفحص الاستباقي في المناطق النائية حيث لا يتوفر أطباء واختصاصيو أشعة. ويساعد هذا النظام في تقليل التكاليف الحكومية، والتي يتم تخصيصها للمرافق الطبية والعلاجية، وكذلك تكاليف الفرق الطبية وأجهزة التشخيص .[13]

ولا تقتصر مبادرات، كالبرامج التجريبية للذكاء الاصطناعي، بتطوير أو اعتماد تكنولوجيا جديدة فحسب، ولكنها تشمل أيضاً قبول التغيير الحتمي والتكيف معه ووضع التنظيمات اللازمة التي قد لا تكون بديهية أو معروفة مسبقاً. وهذا هو التحدي الذي يواجه العديد من دول العالم، بما في ذلك دولة الإمارات. 

وبينما ما نزال في بداية هذه الثورة التكنولوجية، تُظهر نماذج التطبيق التي ذكرناها مدى التأثير المحتمل للذكاء الاصطناعي في مجتمع واقتصاد الدولة. ومن شأن التقدم في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى، ومن ذلك تعلم الآلة وخوارزميات التعلم العميق والكم المتزايد من البيانات عالية الجودة، أن يساعد في زيادة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي. ولكن الأهم هو وضع سياسات من شأنها أن تساعد في المسارعة بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي. 

 

 

حوكمة استراتيجية الذكاء الاصطناعي الإماراتية

كانت حكومة الإمارات سبّاقة في تعيين أول وزير للذكاء الاصطناعي في العالم، وذلك في العام 2017، بما يعكس التزام الدولة تجاه تطوير تطبيقات هذا المجال. وتتمثل مهمة الوزير في الإشراف على تنفيذ الاستراتيجية والعمل على تجاوز التحديات التي قد تنجم خلال تنفيذها. كما شكل مجلس الوزراء مجلساً وطنياً للذكاء الاصطناعي، بمسمى "مجلس الإمارات للذكاء الاصطناعي والتعاملات الرقمية"، في إطار هيكلية حوكمة تشرف على تنفيذ استراتيجية الذكاء الاصطناعي. ومهمة المجلس هي تقديم سياسات من شأنها تأسيس منظومة مواتية للذكاء الاصطناعي، وتشجيع الأبحاث المتقدمة في هذا المجال والتعاون بين القطاعين العام والخاص، بما يشمل المؤسسات الدولية، بغية المسارعة في تبني تطبيقات الذكاء الاصطناعي. ويترأس وزير الذكاء الاصطناعي المجلس الذي يتألف من أعضاء يمثلون كافة الأطراف المعنية، على صعيد الحكومة الاتحادية وحكومة كل إمارة.

وفي نهاية العام 2017، أطلق وزير الدولة للذكاء الاصطناعي البرنامج الوطني للذكاء الاصطناعي[14]، والذي أطلق عليه المسمى المختصر BRAIN (اختصاراً لعبارة "تمكين مجتمع مسؤول بالذكاء الاصطناعي")؛ وهو مجموعة متكاملة من الموارد المخصّصة لتسليط الضوء على أحدث التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي والروبوتات، مع التركيز بوجهٍ خاص على الهدف الطموح لدولة الإمارات في أن تصبح شريكاً رائداً في الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المختلفة على مستوى العالم. 

 

 

تجاوز تحدي الكفاءات

تعتبر حيازة المهارات وتنمية المواهب الوطنية في مجال الذكاء الاصطناعى تحدياً رئيسياً يواجه العالم أجمع. حيث يتطلب استخدام وتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي مجموعة من المواهب التي تتمتع بمهارات متقدمة في علوم الرياضيات والتحليل وعلوم البيانات. ومن بين الأهداف الثمانية لاستراتيجية الإمارات 2031 جذب وتدريب المواهب لوظائف المستقبل وأحد الموضوعات التي تقوم عليها الاستراتيجية هو تطوير كفاءات القادة الحكوميين وتعزيز مهارات جميع الموظفين العاملين في مجال التكنولوجيا. وبعيد إطلاق الاستراتيجية، عقد مجلس الذكاء الاصطناعى شراكة بين القطاعين العام والخاص بهدف بناء الكفاءات وإشراك الجهات الفاعلة في القطاعين الأكاديمي والخاص. ومن الأمثلة على ثمار هذه الشراكة ذلك الاتفاق المبرم بين مكتب دبي الذكية ومعهد روتشستر للتكنولوجيا في دبي لتقديم برنامج الماجستير في علم البيانات، حيث يقوم المعهد بتدريب الموظفين في الجهات الحكومية وإعدادهم للتعامل علمياً مع البيانات. وعلى المستوى الوطني، ومن خلال البرنامج الوطني للذكاء الاصطناعي، عقد وزير الدولة للذكاء الاصطناعي اتفاقيات مع مؤسسات أكاديمية وكيانات في القطاع الخاص لتدريب مواطني الدولة في مجال الذكاء الاصطناعي وشحذ مهاراتهم. كما عقدت الجامعات والكليات في الإمارات شراكة مع البرنامج الوطني بهدف تنفيذ دورات تدريبية متخصصة لموظفي القطاعين العام والخاص تعزز مهاراتهم في هذا المجال. وفي أبريل 2019 أطلقت كليات التقنية العليا أكاديمية مهارات الذكاء الاصطناعى في شراكة مع كيانات القطاعين العام والخاص التي تقدم دورات تدريبية على الذكاء الاصطناعي لأفرادها. وعلاوة على ذلك، يأتي مخيم الذكاء الاصطناعي الصيفي ضمن المبادرات الاستراتيجية التي أطلقها البرنامج الوطني بالتعاون مع العديد من كيانات القطاعين العام والخاص، وبتنفيذ كبار شركاء التكنولوجيا العالميين. ويقدم مخيم الإمارات للذكاء الاصطناعى دورات تدريبية قصيرة مجاناً على مدار أسبوع إلى أسبوعين، ونجح حتى الآن في تدريب أكثر من 15 ألف فرد على مدار عامين منذ إطلاقه في العام 2018. وفي معرض إبرازه قصص النجاح، قال الوزير: "في المخيم الأول، شهدنا العديد من قصص النجاح، ومنها قصة الطالب أذراف، البالغ من العمر 16 عاماً، والذي طور نظام ذكاء اصطناعي يكشف عن الإصابة بسرطان الجلد. وأملنا أن نقدم العديد من النماذج المماثلة لأذراف". 

ودعماً لجهود بناء الكفاءات وتعضيد أنشطة البحث والتطوير في الإمارات في هذا المجال، أسست أبوظبي في أكتوبر 2019 أول جامعة متخصصة في الذكاء الاصطناعي، وهي جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي.[15] ومن خلال تقديمها برامج الماجستير والدكتوراه، تسعى الجامعة إلى تشجيع البحث العلمي وتطويره ونقل المعرفة بالذكاء الاصطناعي. كما تقدم الجامعة منحاً دراسية، ومعاشاً شهرياً للطلاب، علاوة على التأمين الصحي والإقامة. 

 

 

الأدوات التنظيمية وأدوات السياسات اللازمة لتطوير الذكاء الاصطناعي

يفرض تبني الذكاء الاصطناعي في الحوكمة العديد من التحديات. ومن بين التحديات الكبيرة التي تواجه تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعى تحديد مدى تنظيم أنشطته. ومن جانبها، تبنت دولة الإمارات نهجاً رشيقاً في تنظيم استخدام التقنيات المتقدمة بما في ذلك تطبيقات الذكاء الاصطناعي والسيارات ذاتية القيادة. وأسست الحكومة، في شراكة مع مؤسسة دبي للمستقبل، مختبر التشريعيات في يناير 2019،[16] بموجب قانون اتحادي صدر في عام 2018 يأذن لمجلس الوزراء الإماراتي بمنح تراخيص مؤقتة لاختبار وتدقيق الابتكارات التي تستخدم تقنيات المستقبل وتطبيقاتها، ومنها الذكاء الاصطناعي. ويوفر مختبر التشريعيات بيئة اختبار آمنة للتقنيات الجديدة بما يساعد في تطبيق تنظيمات تحكم استخدامها. [17]  

ومن أمثلة التطوير الناجح لسياسات استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية. فقد تبنت دائرة الصحة في أبوظبي سياسة استخدام الذكاء الاصطناعي في قطاع الرعاية الصحية في الإمارة.[18] وتحدد تلك السياسة الأدوار والمسؤوليات الرئيسية لأصحاب المصلحة المعنيين وتضع مبادئ توجيهية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية. وتعد هذه السياسة نموذجاً يمكن للجهات الصحية المحلية والإقليمية أن تحتذي به لوضع سياسات مماثلة. 

وسواءً تعلق الأمر بالرعاية الصحية أو مجالات الخدمات الحكومية الأخرى، فإن المسألة الأخلاقية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتنظيم الذكاء الاصطناعي ولكنها أكثر شمولاً من ذلك بكثير. فلا يوجد سوى عدد قليل من المدن والدول التي تبنت مبادئ توجيهية أخلاقية لتطوير واستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بينما تبقى عديدٌ من المدن والدول الأخرى في طور تطوير تلك المبادئ التوجيهية. وتقود دولة الإمارات هذا الجهد من خلال الدعوة إلى الاستخدام المسؤول والأخلاقي لتطبيقات الذكاء الاصطناعي. وعلى المستوى العالمي، أنشأت الحكومة المنتدى العالمي لحوكمة الذكاء الاصطناعي.[19] ويشتمل المنتدى على مركز أبحاث يضم خمسين من أبرز مفكري وقادة وممارسي مجال الذكاء الاصطناعي في العالم، ويهدف إلى تعزيز الحوكمة والاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي على المستوى العالمي. وعملياً، ومع حلول يناير 2019، صارت دبي، من خلال "دبي الذكية"، أول مدينة في العالم تطلق "مجموعة أدوات التقييم الذاتي لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي" التي أقرتها الحكومة لمساعدة المطورين والكيانات الحكومية في دبي على تقييم الآثار الأخلاقية لأدواتهم وتطبيقاتهم التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي. وعلاوة على هذه الأدوات، فقد قدمت "دبي الذكية" مبادئها التوجيهية والأخلاقية الرسمية للذكاء الاصطناعي للأفراد والمؤسسات التي تقدم خدماته وتطبيقاته في دبي. وهي تكفل أن تتسم أنظمة الذكاء الاصطناعي بالعدالة والشفافية وقابلية المساءلة وإمكانية الشرح والتفسير. [20]

 

 

ما هي توجّهات السياسات التي يمكن للدول العربية الإفادة منها؟ دروس مستفادة من النموذج الإماراتي

حققت دولة الإمارات تقدماً نحو تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجالات مختلفة في القطاع الحكومي العام، من أجل الارتقاء بمستوى الخدمات الحكومية وتحقيق زيادة الإنتاجية وفعالية التكلفة. ويعزى ذلك إلى النهج القيادي وتبني المقاربات التي تتسم بالرشاقة تجاه تطوير السياسات وتنفيذها. وبالنظر إلى أوجه التشابه النسبية في السياق التنموي والثقافي والاقتصادي بين العديد من دول المنطقة، فإن في النموذج الإماراتي لتبني سياسات الذكاء الاصطناعي ما يمكن أن يشكل دروساً قيّمة لدول المنطقة. 

بدايةً، تتمثل إحدى الأسس المهمة الناجمة عن التجربة الإماراتية في أهمية تبني استراتيجيات وخطط وطنية لمجالات العلوم والتكنولوجيا والابتكار، تتضمن هياكل حوكمة واضحة تحدد أدوار ومسؤوليات الجهات الحكومية وغير الحكومية المختلفة. 

وبعد إرساء هذا الأساس، سيكون من المهم تبني نهج يتسم بالرشاقة في وضع السياسات للتغلب السريع على المعوقات التي ستظهر في الحوكمة والنظم التنظيمية. وتشمل أدوات هذه السياسات ما يلي: 

 

 

  • وضع خطط تدريب الأفراد العاملين وشحذ مهاراتهم، فضلاً عن تبني سياسات جذب المواهب
  • تعزيز أطر الشراكة التعاونية التي تشمل الأوساط الأكاديمية والقطاع الخاص والشركاء الدوليين
  • تنفيذ سياسات لحوكمة الذكاء الاصطناعي وإدارة الجوانب الأخلاقية التي تكفل الاستخدام المسؤول لتطبيقات الذكاء الاصطناعي والبيانات في القطاعين العام والخاص
  • تأسيس آليات اختبار التنظيمات والتشريعات للسماح بتجربة واختبار تطبيقات الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة الأخرى بأمان، تمهيداً لتبني التنظيمات مستقبلاً.
  • توظيف آليات تسارع باعتماد ابتكارات الذكاء الاصطناعي في الجهات الحكومية. [21]

 

 

ختاماً، تبرز التجربة الإماراتية أهمية إنشاء منصات تعاون لنقل وتبادل المعارف والخبرات في استخدام الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة الأخرى، والتعاون في ملفات البحث والتطوير ذات الاهتمام المشترك، والاستفادة من الخبرات والموارد المتاحة في المنطقة. ومع قناعة بأنه لا يوجد نهج أو تطبيق موحّد للجميع فيما يتعلق بالتحوّل الرقمي، فإن تجارب وخبرات دولة الإمارات في مجال التحول الرقمي تتيح مجموعة أدوات تمكن واضعي السياسات في المنطقة من تجميعها واستغلالها، كلاً وفق أولوياته وسياقاته. 

 

 

 

سعيد الظاهري هو رئيس "سمارت ورلد"، وعضو مجلس إدارة جمعية الإمارات للحماية من مخاطر الإنترنت. اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.

 

المصادر:

[1] تعبيـر "أمـة الـذكاء االصطناعي" مسـتعار من الكتاب ً للمؤلـف، بعنوان "األمة الرقمية: الـذي صـدر مؤخـرا ً مبني على االبتكار كيـف تبنـي دولـة اإلمارات مسـتقبال التكنولوجـي"، وشـاركه في وضـع الكتاب رانجيت راجـان. ويحلـل الكتـاب رحلـة التحول الرقمي في دولة اإلمارات وكيف تسـتفيد مؤسسـات القطاعين العـام والخـاص مـن تقنيات مثـل الذكاء االصطناعي في تسـريع االبتكار وتحقيق الميزة التنافسـية والنمو االقتصـادي. ويسـلط الكتـاب الضوء على تحديات هذه الرحلة. كما يسـتنبط الدروس المسـتفادة من التجارب الرقمية لهذه المؤسسـات ومن خالل رؤسـائها التنفيذييـن الذيـن يقدمـون المشـورة والتوجيه للقراء المعنييـن فـي المنطقـة وخارجها. "األمة الرقمية: ً مبني على االبتكار كيـف تبنـي دولـة اإلمارات مسـتقبال التكنولوجـي"، is UAE the How: Nation Digital innovation tech on based future a building ، سـعيد الظاهـري ورانجيت راجـان، مجموعة موتيفيت ميديا، 2019. 

[2] تقريـر التنافسـية العالمـي الصادر عن المنتدى االقتصـادي العالمي: http://www3.weforum.org/docs/WEF_TheGlobalCompetitivenessReport2019.pdf

[3] مؤشـر الجاهزية الحكومية 2019 – أكسـفورد إنسـايت: https://www.oxfordinsights.com/ai-readiness2019

[4] تتصـدر دبـي التصنيـف العالمـي في هذا الصدد:  http://wam.ae/en/details/1395302747280

[5] اسـتراتيجية اإلمـارات للـذكاء االصطناعي: 2031:http://www.uaeai.ae/en/

[6] انظـر تقريـر العام 2018: https://www.pwc.com/m1/en/publications/documents/economic-potential-ai-middle-east.pdf

[7] انظـر تقريـر أكسنتشـر للعام 2018: https://www.accenture.com/_acnmedia/pdf-77/accenture-impact-ai-gdp-middle-east.pdf

[8] انظر: مقال أرجون بيسـون " policymaking" agile "to path The." شـبكة المبتكـرون الحكوميون:  https://www.innovations.harvard.edu/blog/path-agile-policymaking

[9] انظـر مقـال الكاتـب- هـل يمكـن لالبتكار أن ينهض بعمليـة صنـع القـرار فيما يخـص التكنولوجيا؟: https://www.thenational.ae/business/comment/can-innovation-save-policy-making-for-technology-1.934015

[10] لذكرى الراحل سـمو الشـيخ سـعيد بن 10.سـمي تكريما راشـد آل مكتوم، رائد نهضة إمارة دبي: https://smartdubai.ae/apps-services/details/rashid

[11] صحيفـة "جلـف نيـوز" – اختبار سـيارات ذاتية القيـادة في دبي :https://gulfnews.com/uae/transport/gitex-driverless-taxi-on-test-run-in-dubai-1.2289375 

[12] تصريح وزير الصحة بشـأن اسـتخدام الذكاء االصطناعي في مكافحة مرض السـل لصحيفة "ذا ناشـيونال"، يوم 23 أكتوبر 2018: : https://www.thenational.ae/uae/health/artificial-intelligence-to-be-used-in-urgent-fight-against-tuberculosis-says-uae-minister-1.783316

[13] صحيفـة "جلـف نيـوز"، 31 مـارس 2019 – نظام ذكي ً: ً كبيرا لتحـري حـاالت اإلصابة بالسـل يحـرز تقدما : https://gulfnews.com/uae/smart-system-to-detect-tb-makes-brisk-progress-1.63031234

[14] انظـر البرنامـج الوطنـي للذكاء االصطناعي: https://ai.gov.ae/

[15] جامعـة محمـد بن زايـد للذكاء االصطناعي: https://mbzuai.ac.ae

[16] صـدرت اإلمـارات قوانيـن تحكم تشـغيل المركبات ذاتيـة القيـادة والـذكاء االصطناعـي. تغطية صحفية في 11: https://www.thenational.ae/uae/uae-to-develop-laws-to-govern-self-driving-cars-and-artificial-intelligence-1.790555

[17] الموقع الرسـمي لمختبر التشـريعات: https://reglab.gov.ae

[18] سياسـة اسـتخدام الذكاء االصطناعي في قطاع الرعايـة الصحيـة بإمـارة أبوظبي. أبريل 2018: https://www.haad.ae/HAAD/LinkClick.aspx?fileticket=C5W0f0QCVto%3D&tabid=1276

[19] 10 أبريـل 2018 – المنتـدى العالمـي لحوكمـة الذكاء االصطناعي: https://ai.gov.ae/uae-ai-initiatives/

[20] انظـر: مبـادئ وتوجيهـات دبـي الذكية حول أخالقيات الذكاء االصطناعي: https://www.smartdubai.ae/initiatives/ai-principles-ethics

[21] انطلقـت مبـادرة "دبـي × 10 "التـي تسـهم في تنفيذ 21 .مثـا رؤيـة دبـي لتكـون مدينـة المسـتقبل، وذلك من خالل آليات عمل جديدة تحاكي المسـتقبل، وتسـهم في اسـتدامة تنافسـية دبي. وتؤسـس المبادرة نماذج عمل جديدة تعيد صياغـة مهـام وأدوار الجهـات والهيئـات الحكومية، وتعزيز دورها في خدمة المجتمع وتوجهات المسـتقبل، وتسـعى إلـى اسـتحداث مختبـرات تجريبية فـي الجهات الحكومية إليجـاد الحلول للتحديات. 

المقالات المرتبطة
image
كيف يمكننا بناء الاقتصاد الرقمي العربي؟ نحو مخططٍ استراتيجي
image
صياغة المستقبل الرقمي للعالم العربي - خارطة طريق السياسات، نحو أجندات وطنية
image
كيف تطبّق سياسات عامة مؤثّرة حقاً؟ مجموعة أدوات عملية لصانع السياسات
image
حوكمة أهداف التنمية المستدامة - كيف يمكن قيادة دفة تحقيقها بأسرع ما يمكن
image
كيف نعكس موج التنمية في العالم العربي؟ نحو سياسات مرتكزة على البيانات، تسارع بنا نحو أهداف التنمية المستدامة
image
مستقبل المدن - ما الذي يمكن أن يتعلمه صناع السياسات من مقاييس المدن الذكية؟
image
هل يمكن للحكومة الرقمية أن تُسارِع تحقيق أهداف التنمية المستدامة؟
image
ممارسات حكومية مبتكرة.. توجهات عالمية للعام 2019
التعليقات

التعليقات 0

انضم إلى المحادثة