إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة (ديسا)[1]

يحتاج تحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030 تغيراً شاملاً في طريقة تعامل الحكومات مع تحديات التنمية المتزايدة. ويتطلب الأمر إعادة التفكير في دور الحكومات في الحقبة الرقمية، وكيف تتفاعل مع المجتمع والقطاع الخاص. كيف يمكن للحكومات في الحقبة الرقمية أن تدير الشؤون العامة للدولة؟ وكيف تتعامل مع احتياجات شعبها وكيف تقدم الخدمات وتدير أعمال التنمية والاقتصاد بشكل مستدام؟ إن لمقاربات الحكومة الرقمية القدرة على التعجيل بتحقيق أهداف التنمية المستدامة وضمان ألا يتخلف أحد عن ركب التنمية. وفي إصدار العام 2018 من الاستبيان الدوري الهام الذي يصدر عن إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة، حول التقدم المُحرز على مسار الحكومات الرقمية تم الكشف عن توجهات عالمية جديدة وعن تحديات جديدة في الحقبة الرقمية. كيف يتعين على الحكومات الاستفادة من هذه الفرص الجديدة للحوكمة الرقمية لتسريع تحقيق أهداف التنمية المستدامة؟

الحكومة الرقمية والتنمية المستدامة

دأبت إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة (ديسا) منذ عام 2001 على نشر استبيان الحكومة الإلكترونية، وهي المطبوعة الوحيدة على مستوى العالم التي تستعرض أداء الحكومات الإلكترونية في جميع الدول الـ 193 الأعضاء بالأمم المتحدة. وهدف الاستبيان هو الوصول إلى صناع السياسات والمسؤولين الحكوميين والجامعات والمجتمع المدني والقطاع الخاص وغير ذلك من الممارسين والخبراء بمجالات الإدارة العامة والحكومة الإلكترونية والعاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بهدف التنمية. ويعد الاستبيان أداة مرجعية لقياس التنمية للدول، ويساعدها على تشكيل سياساتها واستراتيجياتها في هذا المجال. ويستشرف الاستبيان أيضاً القضايا المتصلة بالتحول الرقمي والتعاون الرقمي، وبالدور الهام لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ودور التقنيات الجديدة في إنجاز التنمية المستدامة.

تُعد التكنولوجيا – لا سيما تكنولوجيا المعلومات والاتصالات – وثيقة الصلة بتنمية المجتمعات في حاضرنا، وهي تلعب دوراً مهماً في إنجاز أجندة التنمية المستدامة 2030 وأهدافها الـ 17. وقد اعتمد زعماء العالم معاً في سبتمبر 2015، أجندةً طموحة للبشر ولكوكب الأرض معاً، تهدف إلى "تحقيق الرفاه والسلم، للكوكب وللشعوب جميعًا، عبر الشراكات على المستويات كافة". ومنذئذ تم رصد الكثير من التقدم، مع الإحساس في ذات الوقت بضرورة اتخاذ تدابير مُلحة وعاجلة لتحقيق المبادئ الشاملة الخاصة بشمول التنمية للجميع، والعدالة، والمساواة، والاستدامة في التنمية، وهي القيم التي تضمها أجندة 2030.

وسوف تلعب الحكومات، بالتعاون مع القطاع الخاص والمجتمع المدني دوراً مركزياً في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة. وسوف تحتاج إلى تحقيق مبادئ وأهداف الأجندة عبر المؤسسات العامة، على الأصعدة المحلية والوطنية والإقليمية والدولية. ويعني هذا تحديداً ضمان أن تقوم أهداف القضاء على الفقر و"ضمان ألا يتخلف أحد عن الركب" بتوجيه دفة أجمع المؤسسات، والمؤثرين في المجتمع، والسياسات العامة، والخدمات المُقدمة للعموم. وتعتبر الحكومة الرقمية في الوقت الحالي أداة إنمائية قوية قادرة على تطبيق جميع المبادئ المذكورة أعلاه، وعلى تمكين جميع هؤلاء من تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

 

ومن الصعب للغاية تحقيق هذه الأهداف في كل الدول وتهيئة مجتمعات تتمتع بالسلم والعدل والإنصاف للجميع، إلا مع وجود مؤسسات فعالة وخاضعة للمحاسبة وتتعامل مع احتياجات الجميع. يجب أن تكون المؤسسات قادرة ومجهزة لتكييف هذه الأجندة العالمية مع السياق الوطني المحلي، وتعبئة مجتمعاتها وقطاعها الخاص لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة. وسوف تظهر الحاجة إلى بناء القدرات وتحفيز الابتكارات على المستويات كافة، وبشكل خاص فيما يخص تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والحكومة الإلكترونية، لتعزيز دمج السياسات وتحسين خضوع المؤسسات العامة للمحاسبة، وتعزيز المشاركة لصالح مجتمعات أكثر مراعاة للجميع، وأيضًا لضمان توفر الخدمات العامة بشكل منصف وفعال للجميع، لا سيما للشرائح الأفقر والفئات الأكثر عرضة للضرر.

وهناك فرص كثيرة، وإن كانت معقدة، للاستعانة بالحكومة الإلكترونية في بناء مجتمعات قادرة على الصمود في وجه الأزمات. فالخدمات الأساسية مثل المواصلات والصحة والتعليم والمياه والصرف الصحي، والبنية التحتية والمرافق الجيدة، هي خدمات لا غنى عنها للتنمية المستدامة، ولتحسين جودة الحياة. لكن لكي تكون هذه الخدمات فعالة حقًا، فمن الضروري أن تتوفر للجميع.

فالحاجة ملحة لابتكار تقنيات حديثة إضافة إلى تلك القائمة، لتوسيع دائرة قدرة وصول الأفراد للخدمات وزيادة المستفيدين منها بتكلفة أقل. من المهم إذن إعادة التفكير في كيفية إتاحة الخدمات الجيدة للجميع مع ضمان تحقيق التناغم بين مختلف القرارات في الوقت نفسه، وتطوير سياسات للدمج وزيادة الفعالية والشفافية والمحاسبة. ومن المطلوب أيضاً اتباع آلية صناعة قرار بعيدة النظر ترى الصورة الكلية، وتحقيق مستوى غير مسبوق من التنسيق بين السياسات والتشبيك فيما بين المؤسسات.

لن تتحقق مستويات مستدامة وفعالة وشاملة للجميع، من تقديم الخدمات الحكومية، إلا إذا انتهج كافة الأطراف مقاربة متكاملة ومتوازنة إزاء مختلف الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وكذلك تجاه مختلف المجالات التي تغطيها أهداف التنمية المستدامة. فعلى الرغم أن القطاع العام في العادة هو الفاعل الأكبر والأقوى في المجتمع، إلا أن على الحكومات أن تتقبل بأنها لا تحتكر الموارد وحدها، أو أنها الوحيدة القادرة كل القدرة على الابتكار. لكن في المقابل على الحكومات أن تحتفظ بالمسؤولية الكلية عن الجودة والمعايير وأخلاقيات العمل، وأن تضمن ألا يتخلف عن ركب التنمية أحد، وأن تُحفز على التمكين وأن تقود دعم قدرات المؤثرين الآخرين بالدولة، وبالمجتمع المدني، وبالقطاع التجاري، بحيث يشارك الجميع إلى جانب القطاع العام في التصدي للتحول الرقمي المنشود.

لُغز الحكومة الرقمية المُحيّر

التقدم على مضمار الحكومة الرقمية يعني إتاحة فرص بلا حصر. وفي الوقت نفسه، فإن زيادة الرقمنة في حد ذاتها تؤدي إلى ظهور مخاطر ذات طابع جديد. وقد يوضح المثال التالي طبيعة هذا التناقض.

مع وقوع نحو 24 مليون نسمة كل عام تحت خط الفقر جراء كوارث طبيعية وكوارث يتسبب فيها البشر[2]، أصبح من الضروري تعزيز القدرة على الصمود في وجه الأزمات، لتحقيق تقدم مستدام يضمن للناس والمجتمعات والمؤسسات توفر الموارد والقدرات والمعرفة للحدّ من الصدمات وتوقعها واستيعابها والتكيف معها.

وباستخدام التكنولوجيا الرقمية، يمكن للحكومات أن تتعامل مع الصدمات جراء الكوارث المذكورة أعلاه، ومع مختلف أشكال الأزمات الأخرى، وأن تدير عمليات التعامل مع الطوارئ، وأن تؤدي مهاماً أساسية وتتعافى سريعاً من الأزمات. فبالإضافة إلى دراسات ما بعد الكوارث والحلول التكنولوجية، تلعب السياسات دوراً محورياً في إدارة خطر الكوارث. فبناء على "إطار سينداي للحد من خطر الكوارث بين 2015-2030"[3]، يجب أن ينتقل تركيز الحكومات من التعامل مع الكوارث إلى توقعها قبل حدوثها لتقليلها والحد من خطرها وإدارة هذا الخطر بشكل فعال. ويمكن تحقيق هذا باستخدام البيانات وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وهي ضرورية كل الضرورة في تطبيقات التعرف على إدارة الكوارث وتخفيف خطرها قبل وقوعها. الواقع أن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات – وهي في هذا مثل السياسات العامة – هي عنصر لا غنى عنه في إدارة خطر الكوارث. فأثناء الكوارث وبالتعاون مع التقنيات الجغرافية والتطبيقات الخاصة بالحيز المكاني والتضاريس، يمكن أن تكون هذه التقنيات مفيدة كل الفائدة في التعامل سريعاً وضمان فعالية الاتصالات أثناء مرحلة إدارة الأزمة. ويمكن لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات أيضاً أن تدعم عمل البنية التحتية الوطنية للتعامل مع حالات الطوارئ، وأن تضمن استمرارية الاتصالات وتسليم الخدمات عبر كافة مراحل إدارة الكارثة.

لكن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومنظومات الحكومة الإلكترونية هي في حد ذاتها بنية تحتية مهمة للغاية يجب حمايتها من الكوارث. لابد من تحسين إدارة التطبيقات التي تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لضمان استمرارية الخدمات عبر الإنترنت، وكذلك لحماية المعلومات المالية والصناعية المهمة، إضافة إلى حماية بيانات الأفراد وضمان خصوصيتهم.

ويُعد تزايد معدلات الهجمات السيبرانية مثالاً حياً على كيف يمكن استخدام الإمكانيات التي تتيحها الإنترنت، ليس فقط لصالح تمكين المجتمعات، إنما أيضاً في "الإضرار بالمجتمعات وإخضاعها". فالتكنولوجيا هي خط الدفاع الأول ضد التهديدات السيبرانية والبرمجيات الخبيثة على الإنترنت. ودون توفر تدابير تقنية وقدرات كافية للكشف عن الهجمات السيبرانية والتعامل معها، فسوف تصبح منظومات الحكومة الإلكترونية والهيئات التي تستخدمها معرضة للخطر.

لكن التطورات التكنولوجية السريعة والعولمة جلبت معها تحديات جديدة على مسار حماية المعلومات الحساسة والبيانات الشخصية. فالحكومات والمنظمات الدولية قد لا تكون مستعدة لمواكبة التطورات السريعة في البيئة السيبرانية، وربما تصبح التشريعات القائمة للتعامل مع جرائم التقنية قديمة غير قابلة للتطبيق. يتطلب هذا إطار عمل أقوى وأشد تماسكاً لتأمين لحماية على الصعيدين الوطني والدولي، مع توفر الدعم عبر آليات الإنفاذ الفعال.

إن الإنترنت منظومة بالغة الاعتماد على بعضها البعض، ولا يمكن لأي طرف فيها أن يتبني حلاً شاملاً للتغلب على كافة التهديدات التي تترصد مُستخدم الإنترنت. فنظام الحكومة الإلكترونية الآمن يتطلب التعاون بين كافة الأطراف، بما يشمل مقدمي الخدمات والصناعات والصناع والأكاديميين والحكومة والمجتمع المدني. وبالتالي يبقى التعاون بين مختلف الأطراف المعنية، مثل الحكومة المركزية والمؤسسات العامة المحلية والقطاع الخاص والأكاديميين والمجتمع المدني والمنظمات الدولية، أمراً لا غنى عنه.

توجهات عالمية وإقليمية في الحكومة الرقمية: بعد عشرين عاماً

منذ ابتكارها، تنامى انتشار الإنترنت بشكل كبير. وبحلول عام 2017 قدّر أن 3.7 مليار نسمة – أي نصف سكان العالم تقريباً – باتوا يستخدمون الإنترنت بشكل مستمر. وفيما يتعلق بالبيانات الضخمة وتعلم الآلة وإنترنت الأشياء، يتوقع الخبراء أنه بحلول عام 2035، ينمو عدد وصلات الإنترنت إلى نحو التريليون.

وبالمثل، طرأت زيادة كبيرة ومستمرة في عدد الخدمات الحكومية التي تتم على الإنترنت. فقد نمت الحكومات الرقمية سريعاً على مدار السنوات الـ 17 الماضية، منذ أول محاولة للأمم المتحدة لعمل تقييم بحالة الحكومات الإلكترونية في عام 2001. وتبيّن أن الدول في مناطق العالم كافة تتبنى الابتكار والانتفاع من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في تقديم الخدمات وإشراك الناس في عمليات صناعة القرار، مع تسارع تطوير الدول الأعضاء بالأمم المتحدة للحكومات الإلكترونية، بالاستعانة بأحدث الأدوات والتقنيات الخاصة بالإنترنت. وقد أتاحت هذه التكنولوجيا أدوات متقدمة وموارد كثيرة للحكومات استعانت بها في تقديم الخدمات العامة، وفي إشراك المواطنين في صناعة القرار، وفي تحسين الشفافية ورصد خطط التنمية.

ومن التوجهات الحديثة الأهم، العمل على تحسين وتقدم الخدمات التي يحركها ويديرها الناس. وهذا التوجه يتصدى لزيادة الطلب على المزيد من الخدمات المصممة خصيصاً لحاجة الفرد بشكل يعكس احتياجات الأفراد، وكذلك مطامح الناس إلى المشاركة عن كثب في تصميم وتقديم الخدمات. هذه المطالبات الجديدة تغير من كيفية عمل القطاع العام. وفي الوقت نفسه، يبقى هناك تفاوت داخل الدول وفيما بين الدول.

بشكل عام، كشف استبيان 2018 عن توجه إيجابي متنامي فيما يخص مؤشر تطوير الحكومات الإلكترونية الصادر عن الأمم المتحدة (EGDI)، حيث أحرزت 40 دولة مستوى "مرتفع للغاية" على المؤشر، بعد أن كان العدد 29 دولة قبل عامين. كما تراجع عدد الدول في قاع المؤشر، بواقع 50 بالمئة خلال الفترة ذاتها.

ومن بين الدول العشر التي تحتل قمة المؤشر، أتت الدنمارك وأستراليا في المرتبتين الأولى والثانية، فيما حققت أستراليا المركز الأول فيما يخص تنمية رأس المال البشري، وبقيت ضمن أول 10 دول في ترتيب تقديم الخدمات عبر الإنترنت. وظلت كوريا الجنوبية في المركز الثالث، حيث أحسنت الأداء فيما يخص تقديم الخدمات عبر الإنترنت وفي البنية التحتية التكنولوجية، لكن كانت تنميتها لرأس المال البشري منخفضة مقارنة بالدول الأخرى التي تتصدر الترتيب. وتعكس متوسطات التصنيف على المؤشر في عام 2018 المتوسطات التي تم رصدها في الاستبيانات السابقة، حيث تستمر أوروبا في تصدر المؤشر بأعلى متوسط إقليمي، تليها الأميركتان ثم آسيا وأوقيانوسيا ثم أفريقيا التي تتذيل القائمة.

 

وبفحص التوجهات أعلاه، نرى أنه لم يطرأ تغير في الوضع بالنسبة لترتيب المناطق المختلفة منذ عام 2003، وهذا لعدة أسباب محتملة. فاستخدام التقنيات الرقمية قد يتيح المجال لفرص جديدة بالنسبة للدول النامية، لجَسْر هوة الانقسام الرقمي، لكن بقيت الدول المتقدمة التي تمتلك فعلاً بنية تحتية تكنولوجية قائمة بنتها على مدار السنوات، قادرة على تحسين أدائها أكثر، ما مكنها من زيادة استفادتها من الابتكارات الجديدة، ما يعني تخلّف عدد من الدول، مع إضافة بُعدٍ جديد إلى الانقسام الرقمي المتزايد بالفعل.

 

وتشهد الجهود العالمية لجهود بعض الدول لجسر هوة عدم توفر الإنترنت تحسناً ملحوظاً. لكن في ذات الوقت، توجد اختلافات كبيرة بين المناطق حول العالم. ففي أوروبا يستخدم 80 بالمئة تقريباً من السكان الإنترنت. وتلي أوروبا في النسبة، دول الكومنولث والأميركتان، بصفتها المناطق الوحيدة في العالم التي يفوق فيها عدد مستخدمي الإنترنت، عدد من لا يستخدمون الإنترنت. وفي أفريقيا يستخدم 22 بالمئة فحسب الإنترنت، بحسب إحصاءات عام 2017، ما يعني بعد القارة الأفريقية عن المناطق الأخرى كثيراً.

وإذا نظرنا إلى أفريقيا على سبيل المثال، سنجد أن 4 دول فحسب من بين 54 دولة أحرزت متوسط أعلى من المتوسط العالمي. ففي أفريقيا ثغرات كبيرة في البنية التحتية، بما يشمل البنية التحتية لإنترنت النطاق العريض إن توفرت، يكون مقابل ثمن باهظ للغاية، حيث يتضح ذلك في مؤشر البنية التحتية للاتصالات (TII). وعلى الرغم من التقدم الإيجابي الذي تحرزه القارة على مؤشر EGDI، إلا أنه يبقى متفاوتاً كثيراً عبر القارة، حيث تحرز بعض الدول تقدماً وتتخلف دول أخرى كثيرة.

وشهدت الأمريكيتان في الوقت نفسه تحسناً في تطوير الحكومات الإلكترونية في 2018. فلم تعد المنطقة تقع في ذيل مؤشر الحكومات الإلكترونية. فقد انتقلت الأوروغواي من مجموعة الدول صاحبة التصنيف "مرتفع" على مؤشر الحكومات الإلكترونية (EGDI) إلى التصنيف "مرتفع للغاية"، في عام 2018، وتليها كل من تشيلي والأرجنتين، وهما تحت خط "المرتفع للغاية" مباشرة. ومنذ عام 2016 قامت 8 دول (بنما وأنتيغوا وباربودا، والدومينيكا، وجمهورية الدومينيكان، والسلفادور، وبوليفيا، وسان فنسنت وغريناديس، وباراغواي) برفع تصنيفها على مؤشر EGDI، من متوسط إلى مرتفع. سمحت هذه التطورات الإيجابية للأمريكيتين بالاحتفاظ بموقعها كثاني أفضل منطقة من حيث تطور الحكومات الإلكترونية على مستوى العالم. وتبقى أفضل الدول أداء في الأمريكيتين هي الولايات المتحدة الأميركية، وهي من الدول الرائدة في الحكومة الإلكترونية.

وتشهد آسيا بعض التحديات الفريدة من نوعها، إذ لا يقتصر الأمر على كونها أكثر مناطق العالم ازدحاماً بالسكان، إنما هي أيضاً أكبر قارة من حيث المساحة. من ثم فإن توجه تطوير الحكومة الإلكترونية هناك متفاوت للغاية بحسب الدولة. فكوريا (الثالث) وسنغافورة (السابع) واليابان (العاشر) من بين أول 10 دول في العالم، في حين تقع ضمن فئة الدول الأقل تطوراً على المؤشر كل من كوريا الشمالية (185) واليمن (186). هذا التباين الكبير في توفر خدمات الحكومة الإلكترونية يعكس مستويات هائلة من التفاوت عبر آسيا. وعلى هذا، فإن أداء آسيا القوي في تطوير الحكومات الإلكترونية بين 2016 و2018 يستمر في تحدي ترتيب الأمريكيتين كثاني أفضل منطقة من حيث سرعة تطور الحكومات الإلكترونية.

وفي المنطقة العربية، أحرزت دول مجلس التعاون الخليجي خطوات مهمة نحو تطوير الحكومات الإلكترونية، حيث جاءت دولة الإمارات كأعلى دول المجلس أداءً على المؤشر، تليها كل من البحرين والكويت وقطر. وتمكنت دول مجلس التعاون من إنجاز سلسلة من المنجزات الكبيرة على صلة بتحسين نظم الحكومة الإلكترونية، وتيسير قدرة المواطنين على استخدام البوابات الإلكترونية الحكومية الخاصة بدول مجلس التعاون الأخرى.

وتتكون منطقة أوقيانوسيا من دولتين متقدمتين، هما أستراليا ونيوزيلاندا، مع مجموعة من الدول-الجُزر الأقل سكاناً واقتصاداً، وموارد، بطبيعة الحال. تدخل أستراليا ونيوزيلاندا ضمن أعلى 10 دول تصنيفاً في المؤشر، في تناقض صارخ مع دول أوقيانوسيا الأخرى، حيث تعد فيجي وتونغا – الدولتين رقم 3 و4 ضمن المنطقة – خارج أعلى 100 دولة على المؤشر، رغم أن تصنيفهما الثالث والرابع مرتفع نسبياً على قائمة دول أوقيانوسيا.

حتى لا يتخلف أحد عن الركب: عبور الهوة الرقمية

على الرغم من هذا التقدم، فالتفاوت كبير بين دول العالم، وضمن كل دولة على حدا. حتى فيما يخص التقدم التكنولوجي المحرز في مجال الحكومة الإلكترونية، فإن العالم المتزايد رقمنةً بصورة مطردة هو عالم مُحمل بالمخاطر، ومن هذه المخاطر تزايد التهديدات للتماسك الاجتماعي والرفاه الاقتصادي، فضلاً عن التهديدات الموجهة للكوكب ككل والمتصلة بتجاوز الهوة الرقمية وعبورها بأمان.

لم تعد الهوة الرقمية مقتصرة على عدم توفر القدرة على استخدام البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ولا هي متعلقة حصراً بالانقسام بين الدول مرتفعة ومنخفضة الدخل. فنظراً للتقدم في ملف الحكومة الإلكترونية، تتواجد الانقسامات الرقمية في كافة الدول، ولابد من عبورها لتمكين كل الأفراد من تحقيق أكبر استفادة مما يقدمه المجتمع الرقمي.

 

إنّ مشكلة تخلّف بعض الأفراد والمجتمعات عن ركب التكنولوجيا الرقمية يعرّض الفئات المستضعفة لخطر المزيد من التخلف عن الركب، حيث يُظهر الاستبيان الدولي ارتباط سالب بين استخدام التكنولوجيا الرقمية والعزلة الاجتماعية (أي أن مع تزايد استخدام التكنولوجيا الرقمية تقل العزلة الاجتماعية). فاستخدام الإنترنت يتيح الفرصة لضم الجميع إلى ركب التنمية، لكنه يعني أيضاً المخاطرة بهوة رقمية جديدة، نظراً لقلة مستخدمي الإنترنت نسبياً في الدول منخفضة الدخل، سواء بسبب عدم توفر الأجهزة، أو خدمة الإنترنت السريعة.

 

في الواقع فإن السهولة المتزايدة لجمع المعلومات وتخزينها وتحليلها وتعميمها، وتناقص تكلفة استخدام الهاتف الخلوي وثمن اشتراكات الإنترنت واسعة النطاق، هي عوامل حسّنت من تقديم الخدمات الإلكترونية للفئات المستضعفة من السكان. لكن من الحقيقي أيضاً أن أغلب سكان العالم ما زالوا خارج الإنترنت، وهو ما يزيد من خطر تهميش هذه الفئات التي لا تستخدم الإنترنت، في خضم مجتمعات تحرز خطوات سريعة من التقدم الرقمي. من ثم، فمن الممكن أن يكون للتكنولوجيا دور في المساعدة على تحقيق هدف عدم تخلف أحد عن الركب، وقد تكون أيضاً من العوامل المعيقة لتحقيق الهدف نفسه.

هناك فرص كثيرة لتحسين الدمج الاجتماعي والرقمي للجميع عبر الحكومة الإلكترونية والتقنيات الجديدة ذات الصلة. ويمكن للشراكات المبتكرة متعددة الأطراف أن تساعد على توسيع قدرة الوصول لخدمات الحكومة الإلكترونية، لصالح الجميع، وأن تتيح خدمات خاصة للتعامل مع المشكلات التقليدية المتعلقة بالفقر والإقصاء الاجتماعي.

وقد تم إحراز تقدم ملحوظ مؤخراً فيما يتعلق بالخدمات الإلكترونية الموجهة للفئات الهشة، بما يشمل الأفراد ذوي الإعاقات، والأكبر سناً، والنساء، والشباب، والفقراء، والفئات المستضعفة الأخرى. ولقد تزايد بثبات عدد مواقع الدول التي بها معلومات حول برامج ومبادرات معينة لاستفادة الفئات والمجتمعات المختلفة، وهذا منذ عام 2012.

كما تم التركيز على الخدمات الحكومية عبر الهاتف الخلوي، الخاصة بتقديم التعليم عن بُعد، والخدمات الصحية والخدمات الاجتماعية الأخرى، بما أدى إلى تحسين حياة الناس اليومية. وفي الوقت نفسه، فإن التكنولوجيا الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي تُحسّن من كفاءة تقديم الخدمات للفئات المُهمشة. من الواضح إذاً وجود بعض التقدم الذي طرأ على جهود عبور الهوة الرقمية.

التقنيات سريعة التطور في سياق الحكومة الرقمية: الفرص والمخاوف

إن للتقنيات سريعة التطور في عصرنا هذا القدرة على أن تُحدث تحولات في سبل تدبير وتصريف الأمور المختلفة ضمن مختلف مهام ومجالات العمل الحكومي، وكذلك فيما يتعلق بما تقدمه تكنولوجيا المعلومات والاتصالات للحكومات، من فرص غير مسبوقة لإنجاز أهداف التنمية المستدامة وتحسين رفاه المواطنين.

تدرس الحكومات بالتعاون مع القطاع الخاص والجامعات التقنيات سريعة التطور وكيف تؤدي آثار استخدام هذه التقنيات من قبيل البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة العميق، إلى تحسين وتكييف الخدمات في الإدارة العامة. وفي المنطقة العربية على سبيل المثال، تُعد دولة الإمارات من الدول الرائدة في استخدام الذكاء الاصطناعي. ففي أكتوبر 2017 وضعت الدولة استراتيجية للذكاء الاصطناعي وقامت بتعيين أول وزير دولة للذكاء الاصطناعي على مستوى العالم.

إن استخدام هذه التقنيات الجديدة والطليعية قد يهيئ فرصاً جديدة للتنمية والنمو الاقتصادي في جميع جوانب العمل الحكومي تقريباً، مثل الرعاية الصحية وإنفاذ القانون والأمن الغذائي وتخفيف أثر الأزمات، ومجالات أخرى. ويمكن للحكومات الاستفادة من التقدم الذي يتيحه الذكاء الاصطناعي في تقديم باقة عريضة من الخدمات، وفي الوقت نفسه ستكون خدمات ملبية لاحتياجات كل مواطن، على مدار الساعة.

ويمكن لهذه الخدمات المصممة باستخدام المعلومات المستقاة من البيانات الضخمة، وكذلك من المعلومات التي يتم تحصيلها عبر تحسين تواصل المواطن مع الحكومة، أن تحرز تحسناً كبيراً في التفاعل بين الحكومة ومواطنيها. فللثورة الصناعية الرابعة القدرة على تغيير مجتمعاتنا وتحسين طريقة حياتنا بوتيرة سريعة للغاية.

وعلى الجانب الآخر، نرى التحديات الكبيرة. فكما قال نائب الأمين العام للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، ليو زينمين: "هناك حاجة إلى التفكير في التحديات غير المسبوقة التي تفرضها علينا التقنيات الجديدة الطليعية. فمن دون التخطيط والتصميم بكل حرص، فإن الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال قد يضرّ بالفئات المستضعفة من السكان، وقد يعزز من أوجه انعدام المساواة القائمة، وقد يزيد من الهوة الرقمية ويضر بتوفر الوظائف وبالاقتصاد".

 

من الضروري إذاً أن تتمكن الحكومات والقطاع العام من ركوب هذه الموجة، عن طريق التجهيز لاتخاذ سياسات للتأقلم مع هذا الواقع وتقديم الدعم الكافي للمواطنين لتكييف مهاراتهم معه، والتأقلم مع التكنولوجيا واستخدامها بمرونة.

سوف تختفي بعض الوظائف بطبيعة الحال، لكن ستظهر وظائف جديدة وستظهر الحاجة إلى مهارات جديدة. ولذلك، لابد من وجود معايير أخلاقية جديدة يتبعها الجميع، لضمان أن تعمل هذه التقنيات الجديدة على تحسين حياتنا، لا أن تؤدي إلى تعميق اللامساواة بين الناس والدول. فقد أضحت التقنيات الجديدة والتكنولوجيا من قبيل الذكاء الاصطناعي واقعاً لا غنى عنه، وشكلت مورداً بالغ الأهمية للإنسانية جمعاء. لكن لابد من توزيع هذه الموارد بالتساوي داخل الدولة الواحدة وبين الدول المختلفة، وأن تتوفر للجميع ولكافة الحكومات، بغض النظر عن مستواها من التنمية أو القدرات.

التعامل مع التنمية من خلال الحكومة الرقمية: الدرس المستفاد

من خلال القرار الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة العام الماضي، أقرّت جميع الدول بأن لمعدل التطور التكنولوجي السريع آثار إيجابية وسلبية بعيدة المدى فيما يتعلق بتحقيق التنمية المستدامة، ما يعني ضرورة التعاون على المستوى الدولي بين مختلف الفاعلين للاستفادة من الفرص والتعامل مع التحديات. وإن أهم درس مستفاد من عقدين من تطور الحكومات الرقمية على مستوى العالم، هو أن التحول الرقمي لا يعتمد فقط على التكنولوجيا الرقمية، إنما يستند أيضاً إلى مبادئ من قبيل الفعالية وإشراك الجميع والمحاسبة والثقة والانفتاح، وهي المبادئ التي يجب أن تقود عملية استخدام التكنولوجيا الرقمية، لا أن تقوم التكنولوجيا بتوجيه المبادئ والقيم.

 

فينشينزو آکوارو هو رئيس قسم الحكومة الرقمية ضمن شعبة المؤسسات العامة والحكومة الرقمية التابعة لإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية لدى الأمم المتحدة. اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.

 

المصادر:

  1. أُعد هذا المقال وتوصياته الخاصة بالسياسات بناء على نتائج استبيان الحكومة الإلكترونية 2018 الذي أعدته إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة (ديسا). وقد كتب المقال فينشينزو أغوارو، رئيس شعبة الحكومة الإلكترونية بإدارة المؤسسات العامة والحكومة الإلكترونية في الإدارة، ومنسق ورئيس تحرير استبيان الحكومة الإلكترونية 2018 .إعلان بإخلاء المسؤولية: الآراء الواردة في هذا المقال تخص مؤلفه بصفته المهنية ولا تعكس بالضرورة سياسة أو موقف رسمي لمؤسسة أو جهة بالإمم المتحدة. أمثلة التحليل الواردة في هذا المقال هي محض أمثلة وهي تستند إلى معلومات مفتوحة المصدر جد محدودة تم نشرها. ولا تعكس الافتراضات التي يسوقها التحليل بالضرورة موقف رسمي ألية هيئة أو جهة بالأمم المتحدة.
  2. تتوفر كلمة الأمين العام في اليوم العالمي للحد من خطر الكوارث، 13 أكتوبر 2017، على:
    https://www.un.org/sustainabledevelopment/blog/2017/10/secretary-generals-message-for-international-day-for-disaster-reduction/.
  3. ورقة ختام المؤتمر العالمي للحد من خطر الكوارث، سينداي، اليابان، 2015.
 

المقالات المرتبطة
image
أمة الذكاء الاصطناعي: التبني المتسارع للذكاء الاصطناعي من خلال "رشاقة" صنع السياسات - الإمارات نموذجاً
image
كيف يمكننا بناء الاقتصاد الرقمي العربي؟ نحو مخططٍ استراتيجي
image
صياغة المستقبل الرقمي للعالم العربي - خارطة طريق السياسات، نحو أجندات وطنية
image
كيف تطبّق سياسات عامة مؤثّرة حقاً؟ مجموعة أدوات عملية لصانع السياسات
image
حوكمة أهداف التنمية المستدامة - كيف يمكن قيادة دفة تحقيقها بأسرع ما يمكن
image
كيف نعكس موج التنمية في العالم العربي؟ نحو سياسات مرتكزة على البيانات، تسارع بنا نحو أهداف التنمية المستدامة
image
مستقبل المدن - ما الذي يمكن أن يتعلمه صناع السياسات من مقاييس المدن الذكية؟
image
ممارسات حكومية مبتكرة.. توجهات عالمية للعام 2019
التعليقات

التعليقات 0

انضم إلى المحادثة