دور البيانات وإنترنت النطاق العريض والمنصات الرقمية
البنك الدولي[1]
مثّل الاقتصاد الرقمي على مستوى العالم 15.5 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي في عام 2016، مدفوعاً في ذلك بتزايد المنصات الرقمية وتزايد "رقمنة" الأنشطة في مجالات الصناعة والطاقة والزراعة، وهي نسبة من المتوقع أن تنمو إلى 24.3 بالمئة بحلول عام 2025.[2] وفي ذات الوقت، أصبح تطوير بنية تحتية رقمية عالية السرعة اعتماداً على تقنية الحوسبة السحابية أمراً لا غنى عنه لتوفير فرص العمل بالمناطق الحضرية التي تتوجه لتتحول إلى مراكز للخدمات.[3] وفي هذا السياق، لا غنى عن الاقتصاد الرقمي لتحقيق التنمية في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكي يتمكن مواطنو المنطقة والمؤسسات التجارية الصغيرة والمتوسطة على السواء، من الاستفادة من الفرص الرقمية التي يهيئها هذا الاقتصاد الجديد، يجب أن تتَوَفّر خدمة الاتصال بالإنترنت عبر النطاق العريض بتكلفة معقولة، إضافةً إلى تواجد أنظمة للدفع الإلكتروني جيدة الأداء.[4] إلا أن البنية التحتية الرقمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ليست مواكبة للتطور الجاري بمناطق أخرى، ونظم الدفع الرقمية في بعض الدول بالمنطقة تشهد بُطئًا في الانتشار. كما أن سرعة الاتصال بالإنترنت متدنية إلى درجة ملفتة. ورغم تناقص تكاليف استخدام الإنترنت على مدار السنوات الثلاث الأخيرة، إلا أنها ما زالت باهظة، لا سيما بالنسبة للأقل دخلاً. وتشهد الكثير من أسواق الإنترنت في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا احتكارات أو حواجز تمنع دخول المنافسين، ما جعل المنطقة من أعلى المناطق التي بها تركّز قوة سوقية للإنترنت في العالم. وهذه الحواجز العديدة القائمة تحدّ من تطوير البنية التحتية للإنترنت، ويحد هذا العائق بدوره من الابتكار على امتداد سلسلة القيمة في قطاع الإنترنت بالكامل. أما إذا تحسّن مستوى الاتصال بالإنترنت، وتم اتخاذ تدابير تنظيمية داعمة، فمن المكمن أن يؤدي هذا الأمر إلى نشوء مراكز بيانات، ما سيطلق عنان الأعمال التجارية ذات الاستخدام الكثيف للبيانات، الأمر الذي سيساعد المنطقة على الانتقال نحو الاقتصاد القائم على البيانات. وهذه الفرصة الماثلة أمام الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتحقيق قفزة كبيرة للأمام عن طريق تبني أهداف طموحة على مسار تطوير إنترنت النطاق العريض، وتعميم نظم الدفع الإلكتروني على نطاق واسع، وعبر تعميم اعتماد التكنولوجيا في الاقتصاد بشكل موسّع، هي الفرصة التي يطالب بتحققها تقرير البنك الدولي الجديد بعنوان "اقتصادٌ جديد".[5]
كما يواكب نمو المنصات الرقمية ظهور تحديات جديدة متعلقة بالسياسات العامة، وربما يواجه صنّاع السياسات والمشرّعون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحديات إضافية محددة. ففضلاً عن المذكور، يؤدي اقتصاد البيانات، إلى ظهور بواعث قلق جديدة على مستوى السياسات، تتعلق بالخصوصية وأمن البيانات،[6] وتعزيز تساوي الفرص للجميع على امتداد سلسلة القيمة الخاصة بالاقتصاد الذي تُمكّنه البيانات. وفي تقرير البنك الدولي الجديد بعنوان "المعلومات والاتصالات للتنمية 2018: التنمية التي تحركها البيانات"، تم تحليل الفرص وبواعث القلق الأساسية التي بدأت تظهر مع تنمية الاقتصاد القائم على البيانات. ونسعى في هذه الورقة التحليلية أن نضع تلك التوصيات في سياق يلائم صناع السياسات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
إنترنت النطاق العريض كأساسٍ للاقتصاد الرقمي
يُعد انتشار إنترنت النطاق العريض عبر الأجهزة الخليوية في أقل معدلاته بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مقارنةً بانتشاره في مناطق أخرى، بما يشمل الأسواق الجديدة في جنوب ووسط آسيا. ويُعدّ تواضع الجودة مشكلة قائمة أيضاً. إلى أن هذه المؤشرات تُظهر دينامية تنافسية جيدة فيما يتعلق بالوصول إلى الإنترنت عبر الأجهزة الخلوية، وهي الشريحة الوحيدة في سلسلة القيمة لسوق النطاق العريض، التي تبقى المنافسة مفتوحة فيها في أغلب أسواق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لكن ورغم أن المنافسة أدت إلى توسعٍ جيد ومعقول لخدمات الاتصالات الصوتية الأساسية، فإن نقص الاستثمار في البنية التحتية للشبكات وعدم استخدام البنية التحتية المبنية بالفعل من قِبل أطراف أخرى في السوق بخلاف الطرف الذي شيدها، هي عوامل سوف تحدّ من النمو في المستقبل. تحتاج شبكات الجيل الرابع والجيل الخامس (4 جي و5 جي) الخليوية إلى تطوير بنية تحتية هائلة الحجم من الشبكات الألياف الضوئية (الفيبر).
تحتاج دول الدخل المتوسط في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى محرك جديد للنمو، للخروج من فخ الدخل المتوسط. ويمكن لتكنولوجيا المعلومات أن تفتح طريقاً للنمو، لا سيما في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث يتوفر معدل مرتفع من رأس المال البشري. ومن المقاربات الواعدة التي يمكن لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تبنيها هي اعتماد نموذج للاقتصاد المستند إلى التكنولوجيا، يستوعب الابتكارات ويشجع على الإقبال على المخاطرة ويحتفي بالإبداع.
لكن لتحقيق الانتقال إلى نموذج الاقتصاد المستند إلى التكنولوجيا، أظهرت التجربة في مناطق أخرى من العالم أن الاستثمار في الإنترنت السريع مسألة ضرورية لا غنى عنها، حيث تتصدر مناطق أخرى في مجال اعتماد كابلات الألياف البصرية (الفيبر) على امتداد مساحاتها. ويتوضح مدى التباين في مزيج البنية التحتية المستخدمة للاتصال بالإنترنت الثابت في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في مزيج التقنيات المستخدمة، وذلك مقارنة بدول شرق أوروبا (الشكل 2). فأغلب دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ما زالت تعتمد على تكنولوجيا قديمة، أي أسلاك النحاس، في توفير الإنترنت للمستخدم النهائي، في حين أن دول مثل رومانيا وبلغاريا انتقلت إلى البنية التحتية الخاصة بإتاحة الإنترنت عن طريق كابلات الفيبر. وحدهما الإمارات وقطر هما اللتان تستخدمان نظام كابلات الألياف الضوئية (الفيبر) في توصيل الإنترنت للمستخدم النهائي. وكما هو الحال بالنسبة لإنترنت النطاق العريض الخاص بالهواتف الخليوية، فإن سرعة الإنترنت الثابت في الخليج مُحبِطة. والخلاصة أن أياً من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لم تقم بتوفير سرعة إنترنت تُعادل المتوسط العالمي. ولإظهار أثر التأخر التكنولوجي في المنطقة، فمن المفيد أن نقارن بين بلغاريا والمغرب على سبيل المثال. ففي بلغاريا يزيد عدد مشتركي إنترنت النطاق العريض بما نسبته 1.7 إلى 1 بالنسبة للمغرب. لكن عندما نقارن عدد مشتركي النطاق العريض الثابت، تصل وقتها النسبة بين بلغاريا والمغرب إلى 6.7 إلى 1. أما فيما يخص شريحة مشتركي الإنترنت فائق السرعة الذي يتطلب بطبيعة الحال توفر كابلات الفيبر فتصل النسبة إلى 69 إلى 1. ومع قيام دول مثل رومانيا وبلغاريا – من بين دول أخرى – بوضع أسس توصيل الإنترنت اللازمة للاقتصاد الرقمي (في عدة مدن رومانية مثلاً يفوق متوسط سرعة الإنترنت السرعة في باريس، ومتوسط سرعة الإنترنت برومانيا يفوق مثيله في فرنسا)، تأخرت دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ توقفت عند مرحلة البنية التحتية السابقة، مع انتقال المستهلك بشكل بطيء من استخدام الهاتف الخلوي للاتصال الصوتي، إلى استخدامه للوصول وتبادل إلى البيانات.
يتناقض هذا الأداء المتواضع فيما يتعلق بإتاحة الاتصال بالإنترنت، مع توفر بنية تحتية مدهشة من شبكات الفيبر الأساسية (تلك التي توصل شبكة بشبكة أخرى). فأغلب البنية التحتية الممدودة تحت سطح البحر – التي تربط أوروبا والصين عبر البحر المتوسط وشبه جزيرة سيناء، تمر بالبحر الأحمر ومضيق باب المندب، لتصل إلى شبه الجزيرة العربية وشبه القارة الهندية. هذه البنية التحتية تُكملها شبكات برية قوية تعبر بالمشرق، وهي توفر مسارات بديلة عالية السرعة.
وإضافة إلى ذلك، فإن شركات المرافق المحلية ذات الصلة بدول المنطقة كثيراً ما طورت البنية التحتية الخاصة بكابلات الفيبر لخدمة احتياجاتها الخاصة. فالكثير من الدول لديها القدرة على تعميم هذه الشبكات الأرضية لتُكمل خطوط التوصيل الممدودة بحراً. ويمكن لدول مثل مصر والمغرب والجزائر والعراق أن تطور موقعها كمراكز لتوصيل الإنترنت. فدولة مثل الجزائر لديها كم هائل من كابلات الفيبر، الممدودة على مسافة 75 ألف كيلومتر، وتخص شركات مثل الجزائر تليكوم (اتصالات الجزائر) وشركات تشغيل شبكات الهاتف الخلوي، وأيضاً شركات طاقة عملاقة مثل "سوناطراك" و"سونلغاز". فإذا ربطت الجزائر هذه البنية التحتية بأفريقيا جنوب الصحراء، وبالكابلات المارة بالبحر المتوسط، فإن بإمكانها أن تغير من جغرافية البنية التحتية للإنترنت على مستوى العالم. وهذا الموقع يكمل ويقوي مراكز توصيل الإنترنت الأخرى القائمة بالمنطقة، دون أن يزيحها عن الصدارة.
كما تظهر فرص مماثلة فيما يخص البنية التحتية العالمية للإنترنت، على مسار دعم مرور البيانات بين أوروبا وآسيا، وهي أكبر قنوات توصيل البيانات نمواً على مستوى العالم. ويمكن لتقوية التكامل الإقليمي بالمشرق على وجه التحديد أن تكون له الصدارة في تنمية وتطوير شبكات الإنترنت الأساسية واسعة النطاق، وأن تحتل دوله مكانة جيدة كمراكز إقليمية لتوصيل الإنترنت ولنقل البيانات.
البيانات والمنصات الرقمية: البنية التحتية للاقتصاد الجديد
ثمة حكومات عديدة بدأت تتبين أن البيانات – كواحدة من أصول البنى التحتية – لا تقل مكانة عن أشكال البنية التحتية التقليدية مثل النقل والمواصلات والمرافق العامة. والحق أن سوق الأسهم المالية تثمن حسن إدارة بيانات العميل أكثر من تثمينها لحسن إدارة البنية التحتية التقليدية.
وبالنظر من جانب السياسات، نجد أن مفهوم "البيانات كمرفقٍ أساسي" يكتسب زخماً متزايداً. وبالتالي، ظهر مؤخراً الحرص على صوغ سياساتٍ تعتبر البيانات واحدة من أصول البنية التحتية. وتُركّز هذه السياسات الحكومية عادة على إدارة أصول البيانات (جمع البيانات وإتاحة الوصول إليها وإعادة استخدامها وتشاركها وحفظها وتأمينها) وحوكمة البيانات (ملكيتها وتمويلها)، كما راعت سياسات حكومات أخرى مسألة التخزين (تخزين البيانات محلياً وإدارة مراكز البيانات). وتسري المبادئ ذاتها على شركات القطاع الخاص التي اهتمت بإدارة وتنمية أصول البيانات. كما أن الحكومات تحتاج إلى تيسير تطوير البنية التحتية المادية لإدارة البيانات من مصادر غير تقليدية لم تُصمَم البنية التحتية الحالية للاتصالات لدعمها أصلاً (مثل إنترنت الأشياء أو سجلات بيانات المكالمات). تعد هذه السياسات ذات أهمية خاصة في ظل تأثير موجة الطفرة الرقمية الأخيرة، التي أدت لظهور فائزين عدّة هيمنوا على المشهد الاقتصادي.[7]
لكن ربما سيتعرض هؤلاء ذاتهم، ممن أثار موجة الطفرات الرقمية، إلى الإصابة بطفرات تنال منهم عمّا قريب، لا سيما مع ظهور أنواع أحدث من مصادر البيانات الجديدة، والشركات التي لديها مهارات الموجة التالية القادرة على تطوير منتجات وخدمات جديدة. وهناك تهديدات أخرى منها حدوث طفرة في النماذج الحالية القائمة على الدعاية والإعلان،[8] والتي قد تعاني كثيراً إذا أصبح التشديد في سياسات البيانات هو المعيار السائد وإذا حدث خلاف حول ملكية البيانات في المجتمعات المختلفة. وهناك آخرون قالوا بأن التقنيات اللامركزية مثل تكنولوجيا البلوكتشين قد تكون هي سبب انتهاء تفوق الشركات من قبيل جوجل وفيسبوك.[9]
ما هو أثر الطفرة الرقمية على اقتصادات المنطقة من حيث الفرص والمخاطر؟
لهذا المشهد التنافسي الجديد تداعيات كبيرة على الاقتصاد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ففي أغلب دول المنطقة تميل القطاعات المحمية مثل البنوك وشركات الاتصالات – فضلاً عن قطاعي الطاقة والصناعات الاستخراجية – إلى الهيمنة على الاقتصاد بالمنطقة. وتقدم منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في تقريرها لمؤتمر مجموعة العشرين معلومات مفيدة عن الفرص المتاحة لاقتصاد البيانات: "مع استمرار الانخفاض الكبير في تكلفة جمع البيانات وتخزينها ومعالجتها، فسوف تتولد كميات أكبر وأكبر من البيانات عبر إنترنت الأشياء، والأجهزة الذكية، والاتصالات فيما بين الآلات".[10] وسوف يتطلب هذا مقاربة جديدة للتفكير في البنية التحتية في القرن الحادي والعشرين، مع اتساع التعريف ليشمل شبكات إنترنت النطاق العريض والحوسبة السحابية، والبيانات نفسها، لتقود نمو الإنتاجية".[11] وفي الولايات المتحدة على سبيل المثال تقدر دراسة برينجولفسون وهيت وكيم (2011) أن ناتج وإنتاجية الشركات التي تستثمر في صناعة القرار بناءً على البيانات هي أعلى بنسبة 5 أو 6 بالمئة من المتوقع من الاستثمارات والاستخدامات الأخرى لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. كما توصلت دراسة شملت 500 شركة في المملكة المتحدة إلى أن أفضل 25 في المئة من الشركات التي تستخدم البيانات عبر الإنترنت قد تمكنت من تحقيق إنتاجية أعلى بواقع 13 بالمئة مقارنة بالشركات التي صنفت ضمن أردأ 25 في المئة من حيث استخدام البيانات.[12] وإجمالاً، فإن الدراسات على مستوى الشركات توضح أن استخدام الشركات للبيانات وتحليل البيانات تزيد إنتاجية العمالة بشكل أسرع، بواقع 5 إلى 10 بالمئة.[13] وهناك دراسات أخرى،[14] توصلت إلى عدة خصائص للأعمال التجارية الرقمية، التي تخلق "تنافسية ديناميكية وفائض مستهلك كبير".[15] والكثير من هذه الخصائص تعتمد على البيانات بصفتها المُحرك الرئيسي للأعمال.
وتتوفر فرص للشركات الصغيرة والمتوسطة المعتمدة على التقنية لأن تلعب دوراً كبيراً في الاقتصاد القائم على البيانات. فقطاع أعمال الشبكات الخليوية في نيجيريا على سبيل المثال بلغت قيمته ما يُقدر بـ 8.3 مليار دولار، في عام 2017.[16] لكن تأثير اقتصاد البيانات على الشركات الصغيرة والمتوسطة في القطاعات غير التقنية لا يقل أهمية كذلك. فمن المُقدّر أنّ نِصف فرص العمل بالدول متوسطة ومنخفضة الدخل تأتي من الشركات المحلية الصغيرة والمتوسطة.[17]
ما أنواع المنصات الرقمية التي يُرجح أن تزيد من فرص العمل والنمو في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟
على صنّاع السياسات الاهتمام بالأمور المتعلقة بثلاثة أنواع من المنصات. وهي أمور لا غنى عنها لتنمية المنطقة. وهذه المنصات الثلاث هي:
أولاً، المنصات متعددة الأطراف (MSPs)، التي تتيح التفاعل بين عددٍ من الأطراف من الأفراد أو الشركات، مثل منصتي Careem وsouq.com، وهما منصتان إقليميتان تعيدان تشكيل أسواق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجالي المواصلات بالمشاركة، والتجارة الإلكترونية، على التوالي. وفي هذا الصدد، رغم أن المنطقة من ناحية أولى، أصبحت موطناً لشركات تقنية فريدة من نوعها وبالغة النجاح مثل كريم ومكتوب وسوق دوت كوم، التي تبنت نموذج "المنصات متعددة الأطراف" وحققت نمواً سريعاً، إلا أن بيئة الأنظمة والقوانين المحيطة بالمنصات متعددة الأطراف بشكل عام تتسم بعدم اليقين. فعلى سبيل المثال، فإن منصات تَشارُك السيارات محظورة في تونس والجزائر. أما في أسواق كالأردن ومصر، والتي شهدت نمواً أفضل للمنصات متعددة الأطراف على المستوى المحلي، فقد تعيّن على هذه الشركات الابتكار في نموذج عملهم للسماح بـ "الدفع نقداً عند تسليم الخدمة" للالتفاف حول معوقات متصلة بعدم انتشار نظم الدفع الإلكتروني في صفوف المواطنين. ولذا على المُشرعين وواضعي السياسات الاهتمام بمجموعة جديدة من الإشكالات، ما يشكل ضغطاً على هيئات التنظيم المحلية، التي ينهض أمامها تحدٍ قائم بالفعل، ألا وهو السعي لضمان المنافسة العادلة بمجال البنية التحتية الرقمية. وهكذا سوف يحتاج صنّاع السياسات إلى التركيز في آنٍ على العوامل التمكينية لنمو المنصات (الشكل 6) وعلى إتاحة ظروف منصفة للمنافسة. [18]
ثانياً، منصات الصناعة والطاقة الرقمية. تقود البيانات عملية تحوّل كاملة لكلٍ من مجال الصناعة (عبر "الصناعة 4.0″، والروبوتات، وإنترنت الأشياء، وأتمتة المصانع المتقدمة، إلخ) وفي مجال الطاقة عبر كامل سلسلة القيمة، من التنقيب عن نفط وحتى تزويد وتوزيع الكهرباء. ومن الأهمية بمكان أن تطوير منصات "الصناعة 4.0" في نظم أتمتة المنشآت الصناعية، أو في إعادة تعريف منصات الطاقة السحابية، تتيح المجال لتَشَكُّل منظومة متكاملة من الشركات الخدمية الصغيرة والمتوسطة بالقطاع الخاص، مما يحفز الاقتصادات المحلية على النمو. وتعد اقتران عملية التحديث السريع في القطاعات الإنتاجية الأساسية بالاقتصاد، مع تسارع تطبيق استراتيجيات للتحول الرقمي، المحرك القادر على إحداث النمو في اقتصادات المنطقة، شريطة أن يتم تكييف المواهب المتوفرة مع الفرص الجديدة الناشئة عن هذا التغير الجذري في النسق التكنولوجي.
ثالثاً، ستكون أنظمة تكنولوجيا المعلومات المتصلة بالمنصات الرقمية، كالدفع الإلكتروني، مهمة بدورها لتنمية الاقتصاد الرقمي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا سيما إذا اقترنت بالإصلاح الاقتصادي. فعلى سبيل المثال، قد يشكل اقتران إنشاء نظام وطني للرقم القومي مع انتشار استخدام الدفع الإلكتروني، أداة مناسبة لتنفيذ برنامج إصلاحي موسع لبرامج الدعم المعيشي، أو لتحسين استهداف العائلات المحتاجة عبر برامج الدعم الاقتصادي. وبالمثل، فإن منصة المشتريات الرقمية الوطنية إذا توفرت – مقترنة بإصلاح أعمال المشتريات والبرامج التي تساعد الشركات الصغيرة والمتوسطة على المشاركة في المنصة – يمكن أن تحسن كثيراً من نصيب الشركات الوطنية الأصغر في تدبير مشتريات السلع والخدمات الخاصة بالحكومة والمؤسسات الأكبر التي تملكها الدولة.
إطار سياسات جديد لاقتصاد جديد
في عالم بالغ الاتصال، فإن عملية الوصول إلى التقنيات الرقمية واستخدامها، وأدوات البيانات، قد أصبحت أساسيةً لتحقيق التنافسية، وهو ما يؤثر على فرص بقاء الأعمال وتطورها. وتسمح الحوسبة السحابية للشركات الأصغر أن تتغلب على المعوقات المرتبطة بالتكاليف الثابتة الباهظة للاستثمارات الرقمية، ويمكن أن تساعد الشركات الأصغر على النمو السريع، مع إتاحة موارد حاسوبية قوية بشكل مرن عن طريق نموذج "الدفع لدى تحصيل الخدمة" أو الحصول على الخدمة بالاشتراك.
لكن ثمة حاجة إلى إطار سياسات جديد بالكامل حتى يُحدِث الاقتصاد الذي تحركه البيانات فرص النمو والتحول الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ولذا من الضرورة بمكان أن يتم التحوّل إلى طريقة جديدة تماماً للتعامل مع التكنولوجيا واحتمالات حدوث طفرات تكنولوجية. ومن العناصر المهمة على سبيل المثال تقبّل التغيير وعدم مقاومته. وتشكل إدارة التغيير على كافة المستويات عنصراً مطلوباً للتعامل مع الطفرات التكنولوجية. فهناك سمة متكررة عبر كافة أنواع المنصات الرقمية، من المنصات متعددة الأطراف التابعة للقطاع الخاص، إلى منصات الصناعات والمنصات الوطنية، ألا وهي الحاجة إلى تصميم وتنفيذ استراتيجيات وطنية للتحوّل الرقمي، بما يشمل جملة عريضة من الفاعلين، من الشركات المملوكة للدولة بمجال احتكارات الطاقة المختلفة، إلى المجالات التي تحتكرها قلة معينة، مثل البنوك وشركات الاتصالات، وحتى مستوى الشركات الصغيرة والمتوسطة. هذا وسوف تزيد التنافسية في إنترنت النطاق العريض من السرعة وسوف تُقلص التكاليف، بما سيسمح بتعزيز أسواق الخدمات السحابية على مستوى الدولة بالكامل، مع السماح بالتأثير على التكامل الإقليمي لتحسين توصيل الإنترنت في المنطقة، وبين المنطقة وشركائها التجاريين.
ويمكن لاستراتيجيات تسريع عجلة النمو المصممة جيداً، بما في ذلك تدبير المشتريات العامة رقمياً، أن تؤدي إلى تسريع عجلة التحول الرقمي، وأن تزيد على سبيل المثال من مشاركة الشركات الصغيرة والمتوسطة بالمجال الرقمي. وستكون البرامج التدريبية التقنية الواسعة، على شاكلة برنامج Skilling Up Mashreq أو (SUM) اختصاراً، ضرورية لتدريب الشباب الواعي بالتكنولوجيا على فرص الاقتصاد القائم على البيانات.
كارلو ماريا روسّوتّو هو كبير الخبراء في سياسات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لدى البنك الدولي. اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.
منى فريد بدران هي أستاذ مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية لدى جامعة القاهرة. اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.
المصادر:
[1] كتب التقرير كارلو ماريا روسوتو، بالتعاون مع منى بدران وبراسانا لال داس وإلينا غاسول راموس وإيفا كليمنت ميراندا ومارثا ليتسيتي وغراسييلا ميراليس.
[2] Oxford Economics and Huawey (2017), Digital Spillover. Measuring the true impact of the global economy"
[3] London School of Economics, 2013 and 2018.
[4] Arezki R. and Ghanem H. (2018), A moonshot for MENA: laying the groundwork for the modern digital economy.
[5] World Bank, MENA Economic Monitor "A New Economy for the Middle East and North Africa," October 2018, Washington D.C., USA
[6] World Bank. 2016. World Development Report 2016: Digital Dividends. Washington, DC: World Bank. doi:10.1596/978-1-4648-0671-1.
[7]The Economist. 2017. "The World’s Most Valuable Resource Is No Longer Oil, but Data." May 6. https://www.economist.com/leaders/2017/05/06/the-worlds-most-valuable-resource-is-no-longer-oil-but-data. Described by The Economist as "Big, Anti-competitive, Addictive and Damaging to Democracy" or BAADD.
[8] Bershidsky, Leonard. 2017. "Google and Facebook Too Can Be Disrupted." Bloomberg, December 8. https://www.bloomberg.com/view/articles/2017-12-08/google-and-facebook-too-can-be-disrupted.
[9] Munster, Brett. 2017. "Could Blockchain Disrupt Facebook and Google’s Business Model?"
[10] OECD 2017. Assessing the Impact of Digital Government in Colombia: Towards a New Methodology: 63.
[11] OECD 2017. Assessing the Impact of Digital Government in Colombia: Towards a New Methodology.
[12] Bakhshi, Hasan, Albert Bravo-Biosca, and Juan Mateos-Garcia. 2014. "Inside the Datavores: Technical Report." Nesta. https://www.nesta.org.uk/report/inside-the-datavores-technical-report/.
[14] Täuscher, Karl, and Sven Laudien. 2018. "Understanding Platform Business Models: A Mixed Methods Study of Marketplaces." European Management Journal 3, (3): 319–29.
[15] Täuscher, Karl, and Sven Laudien. Understanding Platform Business Models: A Mixed Methods Study of Marketplaces, 10
[16]Boateng, Richard, Joseph Budu, Alfred Sekyere Mbrokoh, Eric Ansong, Sheena Lovia Boateng, and Augustus Barnnet Anderson. 2017. "Digital Enterprises in Africa: A Synthesis of Current Evidence." http://believeoverhope.org/pearlrichards/index.php/2017/08/20/digitalenterprises-in-africa-a-synthesis-of-current-evidence/.
[17] Matthee, Marianne, and André Heymans. 2013. "How South African SMEs Can Become Better Candidates for Export Finance."Managing Global Transitions 11 (4): 391–407.
[18] A list of emerging policy questions for policy makers and regulators in emerging markets.
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.