كيف أصبحت سنغافورة، وهي مجرد جزيرة صغيرة في جنوب شرق آسيا، لا تملك أي موارد طبيعية، واحدة من أكثر الدول تطوراً في العالم؟ وكيف تمكّن نظامها الحكومي وبنية السياسات القائمة فيها من إنشاء أهم الاقتصادات وخلق أكثر المجتمعات نجاحاً على مستوى العالم في غضون بضعة عقود لا أكثر؟ ما هي "الخلطة السرية" الكامنة وراء نجاح سنغافورة؟ يكفي للمرء أن يلقي نظرة على المكوّن الأساسي لهذا النجاح، ألا وهو: النظام القائم على الجدارة. فمن خلال مزيجٍ فريدٍ من السياسات التي تمنح الأولوية للجدارة والكفاءة والاستحقاق على أي صفة أخرى، تمكنت سنغافورة من تطوير نظام تعليمي مُنصِف للجميع، وخدمة مدنية عامة متقدمة تضمن فعالية العمل الحكومي، وترفع مستويات الإنتاجية الوطنية، وتحقق التنمية المستدامة، وتُرسي التماسك المجتمعي. لقد كان نظام الحوكمة بالجدارة حقاً، بمثابة الريح الدافعة لأشرعة سنغافورة نحو التقدم.
لمحة سريعة
تُعدّ جمهورية سنغافورة بلداً بالغ الصغر من ناحية المساحة. فمساحتها عند نيل الاستقلال عام 1965، لم تكن تتجاوز نصف مساحة البحرين، أو عُشر مساحة إمارة دبي. كما أنها لا تمتلك أي موارد طبيعية على أراضيها. فما من نفط البتة!، وما من غاز طبيعي ولا تملك أي ثروة معدنية يمكن التنقيب عنها. أضف إلى ذلك، أنها نالت استقلالها في وقت يعُجّ بالاضطرابات في منطقة تفتقر للاستقرار السياسي. ومما زاد الطين بلة، احتوائها على نسيج سكاني متعدد الأعراق. حيث يمثل الصينيون منه ما نسبته 75% بالمئة، في حين يمثل المالايو 15% والهنود 8%. وإذا ما التفتنا للمعتقدات فالحال ليس أفضل، فأمامنا مزيج شديد التنوع منها يضم المسلمين والمسيحيين والهندوس والبوذيين والطاويين وغيرها من الأديان والطوائف. بمعرفة هذا، من غير المستغرب أن يتوقع المراقبون الخارجيون بثقة حينها أن سنغافورة لن تقوم لها قائمة، وأن سبب فشلها سينتج عن ضغط خارجي أو اضطراب داخلي.
لكن وعكس كافة توقعاتهم، أصبحت سنغافورة الدولة الأكثر نجاحاً في تاريخ البشرية الحديث، حيث تمكنت من تحسين مستوى معيشة شعبها بوتيرة أسرع، وأكثر شمولية من أي دولة أخرى على الإطلاق.
جدول 1: مقارنة الناتج المحلي الإجمالي الفعلي للفرد الواحد بين سنغافورة وبلدان أخرى
إذاً كيف فعلت سنغافورة ذلك؟ الإجابة بالطبع معقدة ومتعددة الأبعاد وليست بسيطة ومباشرة. ينطوي نجاح سنغافورة على عدة عوامل منها: قيادة فريدة من نوعها، وبيئة السلام والاستقرار التي عززتها رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، ومركزها الجغرافي السياسي الاستراتيجي، والمنهجيات السليمة المتبعة في رسم السياسات العامة، والخدمات المدنية العامة المؤهلة والفعالة. في هذا السياق، يُؤثَر عن لي كوان يو، رئيس الوزراء المؤسس لسنغافورة، قوله بأنه "إذا أردت أن تُنشئ حكومة جيدة، لا بد أن تُسلّم زمام المسؤولية فيها لأشخاصٍ جيدين". ولطالما دأبت الحكومة السنغافورية على العمل بهذا المبدأ، حيث كانت تختار أفضل الأشخاص للانضمام للقيادة السياسية، وخلقت لنفسها مصنعاً للمواهب يزود قطاع الخدمة المدنية بالكفاءات من خلال نظام فعّالٍ للمنح الدراسية.
وبالتالي تَمثَّلَ أحد الأسباب الرئيسية للنجاح الاستثنائي لسنغافورة، رغم كل العقبات والمصاعب المحيطة بها، في قدرتها على اكتشاف- والاستفادة من- القدرات البشرية المبثوثة عبر نسيجها السكاني صغير العدد. وقد دعمَ وعززَ هذا المسعى منهجية سنغافورة الراسخة في تفضيلها العقلانية الاقتصادية على تحقيق الإصلاحات السياسية. وهنا، حريّ بالذكر أن الدروس المستفادة من السياسات التي انتهجتها سنغافورة قابلة للتطبيق في مختلف الدول الأخرى، مهما كان حجمها، سواء أكانت صغيرة أو كبيرة.
إدارة رأس المال البشري على الطريقة السنغافورية
صَمّمت سنغافورة سياساتها في اكتشاف المواهب البشرية والاستفادة منها، بناءً على عددٍ من الفرضيات الرئيسية. أولها هو أن بعض الناس أكثر موهبةً من غيرهم بحكم الطبيعة. وثانيها أن المواهب والقدرات الاستثنائية يمكن أن نجدها بين الفقراء كما نجدها بين الأغنياء دون فرق. وبناءً على هذين القاعدتين، من المنطقي إذاً افتراض أن الدولة قادرة على البحث بشكل استباقي وتطوير المواهب الموجودة في نسيجها السكاني. لتحقيق هذه الغاية، استعانت سنغافورة بعوامل هامة مثل الصحة وجودة الحياة التي من شأنها إطلاق الإمكانات البشريّة التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق إنجازات فردية وجماعية غير مسبوقة. لهذا الغرض، ركزت الحكومة السنغافورية اهتمامها على تنفيذ السياسات العامة بحيث توفّر بشكل مُنصِف وشامل جميع هذه الخدمات الأساسية لكافة مواطنيها. وباختصار، نستنتج أن اتباع سياسات عامة رشيدة يفضي بالدولة إلى خلق مجتمعٍ قائمٍ على أساس الجدارة، تدور فيه عجلة الحياة بشكلٍ جيد.
للوهلة الأولى، قد يبدو البحث عن المواهب في مختلف شرائح وفئات المجتمع، غرضاً يكمن في صميمه اعتبارات نفعية بحتة. إلا أن هذه المساعي في الحقيقة تغذيها أيضاً الاعتبارات الأخلاقية. ذلك أن الآباء المؤسسين الكبار لسنغافورة، لا سيما "لي كوان يو"، و"غو كينغ سوي"، و"إس راجاراتنام"، الذين وصفوا أنفسهم بأنهم "اشتراكيون ديمقراطيون"، انطلقوا في اهتمامهم بالفقراء والطبقات الكادحة من التزامهم الأخلاقي العميق بتحقيق المساواة. وهنا تكمن المفارقة، حيث أن هذا الالتزام الأخلاقي قد أودى إلى تحقيق نتائج اقتصادية برّاقة. وهذا بحد ذاته السبب الرئيسي الذي مكّن سنغافورة، تلك الأمة التي لا تملك أي ثروات طبيعية في متناول يديها، من مراكمة احتياطاتٍ من النقد الأجنبي تجاوز متوسطها بالنسبة للفرد، ما وصلت إليه كل دول العالم الأخرى تقريباً. وفضلاً عن تحقيق نمو اقتصادي مبهر، أسفرت السياسات القائمة على مبدأ الجدارة أيضاً عن استقرار اجتماعي وسياسي جديرٍ بالإعجاب. هكذا شعر الفقراء أن لديهم نصيباً متساوياً مع الأغنياء في تحقيق هذه النتائج الإيجابية التي ينعم بها الجميع. وهذا ما يفسّر لنا لماذا يُعتبر الحزب الحاكم في سنغافورة أطول الحكومات المنتخبة عهدةً على مستوى العالم. ذلك أن القيم والمبادئ التي ينبني عليها "نظام الجدارة" توفّر العديد من النتائج الإيجابية للأمة التي تطبقه، ليس أقلها إنماء الحس بالمواطنة وتعزيز الشعور بالهوية الوطنية.
المزايا الحميدة للتعليم
مثلت السياسات التعليمية المجموعة الأولى من السياسات العامة التي أسست البنية التحتية لنظام الجدارة في سنغافورة. يعتمد النظام التعليمي في سنغافورة على مبدأ ينص على "أن كل طفل أو طفلة يملك أو تملك مواهب بطريقة خاصة". ووفق هذا المبدأ، يتابع الموهوبون دراسياً تعليمهم كما هو متعارف عليه ضمن السُلم الأكاديمي، في حين يرسل الأطفال الموهوبون في مجالات تقنية أو مهنية أخرى إلى المرافق المتخصصة بتعليم وتدريب تلك المهارات. فتجميع الأطفال ذوي القدرات المتماثلة معاً يجعل عملية التعليم فعالة جداً حتى إن كان عددهم كبيراً في كل صفّ دراسي. لكن ما من منهج خالٍ من الأخطاء. فبناءً على تجربتي الشخصية، تم إرسالي صغيراً إلى مدرسة تقنية (صناعية) لدراسة أشغال المعادن وأشغال الخشب (حِرفة صنع الأشياء من المعادن والخشب)، إلا أنني فشلْتُ في دراسة هذين المادتين. وعندئذ أُرسلتُ إلى مدرسة للفنون، حيث أظهرت تفوقاً هناك، وحصلت على منحة دراسية لارتياد المدرسة الثانوية ومن ثم جامعة سنغافورة الوطنية. ونظراً لأن عائلتي كانت فقيرة، لم يكن بمقدوري أبداً أن أرتاد مثل هذه المؤسسات للتعليم العالي دون منحة حكومية.
وعلى النقيض من العديد من البلدان الأخرى في العالم، حيث يتم اختيار الخبراء الاقتصاديين والسياسيين من طبقة النخبة في المجتمع، تبحث سنغافورة عن نجومها الاقتصاديين والسياسيين (من خبراء ومتفوقين دراسياً) في كل طبقة من طبقات المجتمع، حتى بين أطفال العائلات الفقيرة جداً. لهذا لا تتعجب إذا علمت أن وزيرين من أنجح وزراء سنغافورة، وهما وزير التجارة، ليم هنغ كيانغ، ووزير الصناعة، تشان تشون سينغ، ينحدران من عائلات فقيرة جداً. ولو كان هذان الشخصان في أغلب المجتمعات الأخرى، لما كانا ليرتقيا مثل هذه الرتب العالية أبداً. لكنهما تمكنا من النجاح والبروز بفعل المنح الحكومية التي حظيا بها في سنغافورة.
تستخدم الحكومة السنغافورية اختباراً تنافسياً لضمان ألا يحصل على المِنح الحكومية المرموقة إلا ألمع العقول. حيث صُمم هذا الاختبار بشكل يجعل الحائزين على المنح يتقدمون بطلبات للدراسة في أفضل الجامعات العالمية، كما يتوقع منهم أن يحافظوا على تصنيفهم العالي ضمن الطلاب، وأن يتخرجوا ضمن رتب الشرف من كلياتهم. نتيجة لذلك، يحصل أفضل الطلاب السنغافوريين على معدلات قبول مرتفعة نسبياً بين مجمل المقبولين في أرقى الجامعات العالمية مثل ستانفورد وهارفارد وكولومبيا وبيركلي، لا تتناسب إطلاقاً مع عدد سكان سنغافورة الصغير.
بهذا الصدد، إليك إحدى الإحصائيات المدهشة التي توضّح ببلاغة الامتياز الذي حققته سنغافورة في نظامها التعليمي: فالبلد الذي يرسل أكبر عددٍ من الطلاب غير البريطانيين إلى جامعتي أكسفورد وكامبريدج، هي دون شك الصين، أكبر دولة من ناحية عدد السكان لاحتوائها على 1.4 مليار نسمة. إلا أن المثير للدهشة هنا هو أن تَحِل سنغافورة في المرتبة الثانية من ناحية عدد الطلاب المُرسلين لهاتين الجامعتين، مع أن عدد سكانها لا يتجاوز 3.5 مليون نسمة. خلاصة القول، أن هناك مؤشرات اقتصادية عالمية تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن سياسات نظام الجدارة التي تنتهجها سنغافورة نجحت في استخلاص أقصى قدرٍ ممكن من المواهب من نسيجها السكاني، على الرغم من أن عدد مواطنيها صغيرٌ جداً مقارنةً بدول العالم الأخرى.
المكونات السرية لنجاح الخدمة المدنية العامة في سنغافورة
عندما يتخرج الطلاب الذين مولت الحكومة منحهم الدراسية، يُطلب منهم العمل لصالح الحكومة لمدة تتراوح من خمسة إلى ثمان سنوات. ومن المعروف أن الكثير من المجتمعات الآسيوية هرمية الهيكلية منذ القدم. كما من المعلوم أيضاً أنه وفي معظم الحكومات، ترتكز الترقيات الوظيفية على الأقدمية وليس الجدارة. إلا أن سنغافورة فعلت العكس، ونتيجة لذلك، تمكن الشباب في مقتبل العمر من تولي أعلى المناصب الإدارية والحكومية. فلا زلتُ أذكر أني لما عُيّنت سفيراً لبلادي لدى الأمم المتحدة في سن الخامسة والثلاثين، لم تسع نظيري البريطاني الدهشةَ من هذه الحقيقة. فمن أعراف الدبلوماسية البريطانية ألا يتجاوز منصبك في هذا السنّ منصب سكرتير أول للدولة. ففي تلك الدائرة الحكومية لديهم، لا يمكن أن تجد مديراً أصغر من موظفه أبداً. أما في سنغافورة، فمن الشائع أن يكون مديرك أصغر منك سناً. فعندما بلغت الأربعين من العمر، كنت موظفاً لدى وزير لم يكن يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره. خلاصة الكلام، أن الأقدمية لا محلّ لها من الإعراب في سنغافورة. فالعنصر الأساسي هنا هو "الجدارة".
وحريّ بنا أن ننوه هنا أن سنغافورة لم تخترع من نفسها مفهوم "نظام الجدارة". فكل ما فعله قادة سنغافورة الأوائل هو بحثهم عن أنجح المؤسسات والشركات في العالم، ومعرفة الأسباب التي أدت إلى نجاحها. وكان ثمرة بحثهم هو أن شركات القطاع الخاص غالباً ما تحقق نجاحاً أكثر من القطاع العام. في ذلك الوقت، كانت شركة "شل" للنفط تعد مثالاً ممتازاً. فقد نجحت الشركة نتيجة اعتمادها في ترقية موظفيها على "الجدارة" وليس "الأقدمية". ووفق هذا المبدأ الأساسي، أصبحت سنغافورة، أول مستعمرة بريطانية سابقة تغيّر سياسات ترقيات الموظفين في نظام الخدمة المدنية فيها، من نظام الترقية التقليدي المتبع في قطاع الخدمة المدنية البريطاني، إلى نظام الترقيات المعتمد في شركة النفط البريطانية "شل".
وفي فترة رئاستي للدبلوماسية السنغافورية، طُلب مني أن أُصنّف جميع الدبلوماسيين السنغافوريين وفق الصفات المحددة بمنهجية "HAIR". ويقيس هذا المنهج كلاً مما يوصف بـ"الرؤية الهيليكوبترية"، والذي يعني القدرة على استيعاب التفاصيل الدقيقة دون إغفال السياق الاستراتيجي الأشمل؛ و"قوة التحليل"، و"الخيال"، و"الإحساس بالواقع". وقد طُوّرت هذه المنهجية شركة شل للنفط وذلك بهدف اكتشاف أفضل المواهب في جميع أنحاء العالم وضمّها للشركة. أما الآن فقد أدخلت سنغافورة تحسينات على هذه المنهجية؛ وأصبحت عمليات اختيارها للمواهب واكتشافها تضاهي تلك المتبعة في أنجح المؤسسات على مستوى العالم، بما في ذلك شركة ماكينزي وجامعة هارفارد.
وبديهي أن تكون النتيجة الطبيعية لهذه الترقيات السريعة للمواهب والكفاءات المؤهلة خفض رُتب غير الموهوبين وغير المؤهلين وإعادة ترتيبهم ضمن الهيكل الإداري. وكما هو معلوم، يُعدّ التوظيف في قطاع الخدمات المدنية في معظم دول العالم، توظيفاً لفترات طويلة من الزمن، وحتى يتقاعد الموظف. أما في قطاع الخدمة المدنية في سنغافورة، لا يوجد مثل هذا الأمان الوظيفي لأولئك الأشخاص الذي تم إعدادهم وتعليمهم لتولي أعلى المناصب الإدارية. ونتيجة لذلك، يتم تحفيز أولئك الموظفين في الخدمة المدنية الذين يتكرر تصنيفهم في المؤخرة بين زملائهم، بأن يستقيلوا ويغادروا العمل، مع بذل الجهود ليتم ذلك بطريقة إنسانية وودية.
وفي سنغافورة، لا تجدي العلاقات مع أصحاب المناصب السياسية نفعاً بالنسبة لموظفي الخدمة المدنية. وسبب ذلك أن رواتب كبار موظفي الخدمة المدنية تعتبر من أعلى الرواتب على مستوى العالم، وحساب هذا الراتب نتج عن سياسة إدارية تقضي بتقدير ما يمكن لموظف الخدمة المدنية أن يجنيه في المتوسط في حال عمل في القطاع الخاص. في هذا النظام، يتم تقييم جميع موظفي الخدمة المدنية من ناحية مستوى الأداء ودرجة قدراتهم بشكل سنوي؛ ومن ثَم تُتخذ قرارات الترقيات والمكافآت والمنح وعلاوات المرتب وفق تلك التقييمات. وعادةً على مستوى العالم، لا يحصل على المنح السنوية إلا قلة قليلة من موظفي الخدمة المدنية. أما في سنغافورة فتشكّل هذه المنح بالنسبة لكبار موظفي الخدمة المدنية جزءاً هاماً من الأتعاب المادية التي يحصلون عليها. ولذلك لا يوجد لكبار موظفي الخدمة المدنية حافز فعلي لـ"محاباة" الآخرين، أو توظيف أو ترقية موظف غير مؤهل وترك أولئك المؤهلين. كما أن نطاق نفوذ السياسيين وغيرهم من أصحاب المناصب العليا فيما يتعلق بقرارات التوظيف أو الترقية في قطاع الخدمات المدنية محدود جداً.
وهكذا أدّت هذه السياسات الخاصة بالترقية وفق الجدارة ومنح رواتب تنافسية مماثلة للتي تُمنح في القطاع الخاص، إلى الحد من الفساد إلى درجة الصفر تقريباً في قطاع الخدمات المدنية في سنغافورة. وحتى عندما تقع حالات فساد في هذا القطاع، تقوم الحكومة بمعاقبة الجُناة بشكل صارم. ومجدداً، على النقيض من الدول الأخرى التي تتربع فوق بحار هائلة من الثروات الطبيعية، ومع ذلك لم تستفد منها على أمثل وجه، حيث ينخرها الفساد وتعجّ بحالات التحايل، تمكنت سنغافورة من إنشاء صناديق للثروة السيادية تعد الأكبر من ناحية حجم الأصول في العالم، دون أي تسرب ماليّ تقريباً، في حين تُهدر الدول الأخرى التي تجني مليارات الدولارات من الصادرات النفطية هذه الثروات، حيث يتسرب بعضها لجيوب الفاسدين.
بغية القضاء على الفساد، تُتخذ قرارات "التوريد والتموين" في القطاع العام على أساس "الجدارة" أيضاً، وما نعنيه هنا بالضبط هو قدرة البائع الواضحة على الإيفاء التام بالمتطلبات المنصوص عليها. هكذا تُجرى المشتريات الحكومية في الغالب وفق مناقصات تنافسية، مع المبدأ المتعارف عليه بمنح عقد التوريد والتموين لمن يقدّم أقلّ سعر. يضمن هذا الإجراء الحصول على سلع وخدمات تستحق ثمنها تماماً، ويحدّ من إمكانية منح العقود للشركات أو الأفراد الذين لديهم علاقات مع السياسيين أو أصحاب المناصب العليا أو المشرفين على المناقصة. ومع أنه بمقدور المسؤولين الحكوميين تزكية أحد البائعين على الرغم من أنه لم يقدّم أقل سعر في المناقصة ليمنحوه العقد، إلا أن عليهم أن يبرروا هذه التزكية على أساس "الجدارة"، بمعنى أن عليهم أن يثبتوا أن منح العقد لذلك البائع الذي قدّم سعراً أعلى سيضيف قيمة أفضل للشعب والمجتمع من منحها لذلك البائع الذي قدّم أقل سعر.
من ناحية أخرى، لا يخفى أن الفوائد الاجتماعية والسياسية للسياسات العامة القائمة على "نظام الجدارة"، لا تقلّ عن فوائدها الاقتصادية. حيث يعني النظام القائم على الجدارة أن أرباب العمل، سواءً أكانوا من القطاع العام أو الخاص، سيتخذون قرارات التوظيف والترقية دون تمييزٍ على أساس العرق أو الجنس أو الدين. ففي نسيج سكاني متعدد الأعراق والأديان مثل سنغافورة، أدى انعدام التمييز وفق العرق والجنس والدين إلى تناغم غير مسبوق بين المواطنين. فكل مجموعة عرقية في جمهورية سنغافورة، مهما كان عدد أفرادها صغيراً، تحظى بفرصها المتكافئة لشغل أفضل المناصب المتاحة في البلاد. وبما أن الاختيار مبني على "الجدارة" وليس "عِرق" المرشح، لم يشعر سكان سنغافورة بأي دهشة عندما حصل ذات مرة وكان رئيس الجمهورية (إس آر ناثان) وكبير الوزراء (إس جاياكومار)، ووزير المالية (ثارمان شانموغاراتنام)، ووزير القانون (كاي شانموغام)، ووزير تنمية المجتمع والشباب والرياضة (فيفيان بالاكريشنان)، جميعاً من الهنود، على الرغم من أن الهنود لا يشكلون إلا 8% بالمئة فقط من النسيج السكاني السنغافوري.
التحديات التي يواجهها مجتمع الجدارة: النقائص المرصودة والإصلاحات المقترحة
لا يتصف النظام الذي تنتهجه سنغافورة بالكمال. فعلى الرغم من نجاحاته المحققة، إلا أنه حظي بنصيبه من الانتقادات من قبل المواطنين السنغافوريين أنفسهم قبل غيرهم. حيث كتب الأستاذ كينيث بول تان من كلية "لي كوان يو" للسياسات العامة في الآونة الأخيرة: "في الوقت الراهن، تتعرض الأفكار التي يقوم عليها نظام الجدارة في سنغافورة للانتقادات، من بينها أنها تزيد من ثقل القيود المؤسساتية على حرية التنقل؛ ولأنها تضع تعريفاً ضيّق الأفق لما تعنيه فكرة الجدارة والنجاح ذاتها؛ ولتزايد عدد النخبة التي تهتم بمصالحها الخاصة والتي تبدو حريصة للغاية على البقاء في مواقع السلطة والنفوذ، لدرجة أن المواطنين لاحظوا بالفعل أنهم أناس متكبرون ولا يبذلون جهدهم لتلبية مطالبهم"[1].
يعتبر وجود مثل هذه الانتقادات أمراً صحياً وحيوياً للحفاظ على المستوى العالي من النجاح الذي حققه النظام المُنتقَد وهو في حالتنا هذه قطاع الخدمات المدنية في سنغافورة، ولا غرابة في ذلك لأن تحقيق النجاح غالباً ما يؤدي إلى الرضا عن الذات وتباطؤ السعي نحو التقدم والخلود لمنطقة الراحة. من ناحية أخرى، تمثلت استجابة القيادة السنغافورية في الاعتراف بهذه المشاكل وأقرّت بضرورة السعي للتصدي لها. في هذا السياق، اعترف وزير التعليم في سنغافورة، السيد أونغ يي كونغ (الذي ينحدر هو كذلك من أسرة فقيرة)، في البرلمان في جلسة بتاريخ 11 يوليو 2018 أنه وعلى الرغم من "عدم وجود تناقض بين مفهومي ‘الجدارة’ و’العدالة'"، إلا أن هذه الكلمة عرضة لخطر أن "تصبح كلمة مُسيئة وكأنها سُبة من فرط ابتذالها" كونها "وللمفارقة، على ما يبدو قد أنتجت نظاماً يسوده الإجحاف الممنهج". وفضلاً عن ذلك أقرّ السيد أونغ أن هناك فجوة ينمو اتساعها بمرور الزمن بين ما يمكن للأغنياء إنجازه وبين ما يمكن للفقراء الوصول إليه: "حيث أنه وخلافاً للجيل الأول من السنغافوريين، حين كان معظم الطلاّب ينحدرون من عائلات متواضعة الحال، نجد أن الجيل التالي يبدأ من نقاط انطلاق بعيدة عن نقاط انطلاق سابقه، ويكمن المشكل في أن نقاط الانطلاق هذه مختلفة ومتفاوتة، حيث أن الطلاب من العائلات الغنية لديهم مزايا تجعلهم متقدمين على طلاب العائلات الفقيرة"[2].
تعكس تصريحات السيد أونغ القلق الشعبي المتنامي بشأن عدم تكافؤ الفرص في سنغافورة. هكذا نستنتج أن السياسات الرامية إلى إرساء نظام الجدارة، قد تؤدي إن لم تولي اهتماماً كافياً لنقاط البدء في سباق الجدارة هذا، إلى تفاقم وضع عدم المساواة ولا تكافؤ الفرص. ولذلك، لا مفر أمام الحكومات من أن تضمن أن سياساتها المتعلقة بالجدارة توفّر بالفعل بيئة تحظى بتكافؤ الفرص لجميع مواطنيها دون تمييز، بحيث تؤدي تلك السياسات إلى الحدّ من اللامساواة وليس زيادة حدّتها بمرور الزمن. وبالفعل، واستجابة لهذه الانتقادات، شرعت الحكومة في إجراء تعديل مستمر لسياساتها بخصوص الجدارة، بدءاً بتلبية احتياجات الأطفال في مرحلة ما قبل الدراسة، حيث أن أطفال العائلات الفقيرة لا يحظون بهذه الميزة التي يحظى بها أطفال العائلات الميسورة. وبغية معالجة هذه المشكلة، شهدت السنوات الأخيرة تخصيص الحكومة لموارد معتبرة في تنامٍ مستمر لتعزيز مرحلة التعليم ما قبل المدرسة لعموم الشعب. العبرة المستقاة هنا هي أنه ما من نظام مثالي من كافة النواحي. فكل نظام مهما كان جيداً لا بد من تحسينه وتنقيحه باستمرار.
لكن وعلى الرغم من أنه نظام غير مثاليّ، إلا أنه ما من شك في أنه من أفضل المتاح على المستوى الدوليّ، حيث يتربع قطاع الخدمة المدنية السنغافوري على قائمة أفضل نُظُم الخدمة المدنية في العالم، إن لم يكن أفضلها على الإطلاق. وبفضل تطبيق منهج الجدارة عالي الأداء في قطاع الخدمة المدنية، تفوقت -ولاتزال- سنغافورة على معظم الأمم والدول الأخرى في كل مؤشر من مؤشرات التنمية البشرية تقريباً. حيث تحتل سنغافورة المرتبة التاسعة عالمياً في مؤشر التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2018[3].
وفي الختام، هذه هي المفارقة الكبرى التي ينطوي عليها "نظام الجدارة". فمن الناحية النظرية، يفترض أن يسفر مثل هذا المجتمع عن خلق نخبة من الموظفين والأشخاص الأعلى أداءً من غيرهم. أما من الناحية العملية، فقد ثبت بالتجربة أنه يعزز رفاه المجتمع في كافة القطاعات. ومع أن النخبوية التي يخلقها نظام الجدارة قد ينجرّ عنها بعض التوترات والتحديات، إلا أن هذه الأخيرة بالإمكان إدارتها بحيث تؤدي إلى رفع مستوى الرفاه الاجتماعي أكثر والمضي بالإنسانية نحو بيئة أسعد.
كيشور محبوباني هو العميد المؤسس لكلية "لي كوان يو" للسياسة العامة، وأستاذ في ممارسة السياسة العامة في جامعة سنغافورة الوطنية. وآخر مؤلفاته كتاب "هل ضيّع الغرب بوصلته"؟ (دار نشر بنجوين، المملكة المتحدة، 2018). اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.
المصادر:
url-share » اسباب نهضة سنغافورةأبريل 1, 2021 3:12 م
[…] كيشور محبوباني, “ما سر نجاح سنغافورة؟”، dubaipolicyreview.ae, Retrieved 25-2-2020. […]