هل صارت المدن المدن أذكى، لكنّ الحياة فيها أصعب؟ في ظل تواجد أكثر من نصف سكان العالم في المدن والبلدات في عصرنا الحالي، أصبحت آثار التوسع الحضري على المجتمع واقعاً ملموساً. فبلدان إفريقيا وآسيا مثلاً، ستشهد توسعاً حضرياً ضخماً في السنوات القادمة، لتمثل 90 في المائة من هذا التحول العالمي. وفي ظل هذه الظروف الجديدة، تكابد الحكومات المحلية للارتقاء بالخدمات العامة ، لا سيّما تلك الموجهة للسكان الأكثر تهميشاً. ومن بين تلك الفئات المهمشة، يُعدّ الأشخاص ذوو الإعاقة مجتمعاً متنوعاً متفاوتاً يمثل 15 في المائة من عدد سكان العالم، ويعيش 80 في المائة منهم في النصف الجنوبي من الكوكب. ومن هؤلاء، يعيش الآن أكثر من النصف في المدن والبلدات؛ وهو عدد من المتوقع أن يناهز المليار نسمة بحلول العام 2030.[1] ويواجه ذوو الإعاقة أشكالًا متعددة من التمييز والإقصاء بسبب تحديات الوصول إلى الخدمات في البيئات العمرانية والرقمية والاجتماعية. ولأن تلك التوجهات والتوقعات تخلّ بتوازن أجندة التنمية، علينا أن نعمل على أن تكون المدن مراكز ازدهارٍ بشريّ تكفَل حصول الجميع دون استثناء على مستويات المعيشة والفرص الفريدة التي تقدمها المدن. ومع تحوّل المزيد من تلك المراكز الحضرية العالمية إلى مدنٍ ذكيةٍ بوتيرةٍ متسارعة، يتعين على صانعي السياسات التأكد من أن الاندفاع نحو "المدن الذكية" لا يعني تجاهل فئاتٍ كبيرةٍ من قاطني تلك المدن. لكن كيف يتسنى لهم فعل ذلك؟ 

 

 

أدوات لصنع سياسات مبتكرة تشمل الجميع: نحو نهجٍ قائمٍ على الحقوق، لبناء مدن ذكية أفضل

ما تقوم به الحكومات من استثمارات وابتكارات في مجال التكنولوجيا يعيد صياغة الطريقة التي نتعامل بها مع التنمية الحضرية وكيفية وصولنا إلى أمكنة العمل والحصول على الخدمات العامة واكتساب الدخل. وتحت مظلة أهداف التنمية المستدامة، تمنح التحوّلات التكنولوجية فرصة غير مسبوقة لتنفيذ هدف التنمية المستدامة رقم (11) حول "مدن ومجتمعات محلية مستدامة"، وهو الهدف المعني بتطوير مدنٍ قادرةٍ على الصمود في وجه التحديات وشاملة لجميع قاطنيها، وذلك بالشراكة مع الحكومات المحلية. كما يساهم تمكين الحكومات والمجتمعات المحلية من تنفيذ أهداف التنمية المستدامة في تحسين أوضاع حقوق الإنسان، وضمان تطبيق الحوكمة الجيدة، وتعزيز المشاركة المدنية، ودعم النمو الاقتصادي الشامل. ومع انتشار التكنولوجيا في المناطق الحضرية، علينا أن نتبنى نهجاً قائماً على الحقوق لبناء مدننا. فيمكننا، على سبيل المثال، تطبيق قوانين مناهضة للتمييز بغرض حماية حق الأطفال من ذوي الإعاقة في التعليم إلى جانب أقرانه الذين لا يعانون من إعاقة. ويشمل ذلك أيضاً تدريب المعلمين، وضمان أن يكون للبنية التحتية الرقمية ميزات خاصة لذوي الإعاقة، مثل تحويل النصوص إلى كلام منطوق، وتوفير التعليقات النصيّة على المواد التعليمية المرئية، وحتى توفير التطبيقات التي تتيح للمستخدم إدخال أو إخراج البيانات على هيئة صوت وغيره، كبدائل للوسائل التقليدية للتعلم عبر الإنترنت أو الحاسوب. 

 

ولا يقتصر تقديم خدمات ذوي الإعاقة على الخدمات التي تدرج ضمن البنية التحتية للمدينة، مثل تزويد الحافلات أو المباني بوسائل خاصة بهم تمكنهم من الوصول أو استخدام هذه البنى التحتية. بل يشمل تصميم السياسات والبرامج والخدمات المبنية على أسس التصميم التي تضمن شمول الجميع بلا استثناء. وهو أمرٌ سيؤدي إلى إتاحة المنتجات أو البرامج أو الخدمات التي تنتج عن هذا النهج في التصميم لأوسع شريحة من المستخدمين، دون الحاجة إلى تعديلها بشكل متخصص لكل فئةٍ منهم

 

وتعد اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة من أولى اتفاقيات حقوق الإنسان التي تعترف بأن استخدام التكنولوجيا حقٌ من حقوق الإنسان. ومنذ العام 2002، ومن خلال المجموعة الاستشارية العالمية "وورلد إنيبلد"، تَمكنّا من مساعدة الحكومات في جميع أنحاء العالم على تنفيذ هذه الاتفاقية. ويُبرِز التركيز على دور التكنولوجيا في هذه الاتفاقية أهمية التحوّل الرقمي في تحقيق المشاركة الفعالة ذات الجدوى.

 

وإذا أضفنا وجهة نظر ذوي الإعاقة خلال مرحلة التصميم، ستصبح التكنولوجيا وقتها عاملاً مؤثراً في تحقيق مقاصد أهداف التنمية المستدامة المعنية بإدماج جميع الشرائح، حيث سيؤدي ذلك إلى اتساع إطار الجهود المبذولة وزيادة آثارها. فالوصول والإدماج يعدّان عنصران أساسيان في عالمنا الرقمي الجديد، وفي بناء مستقبلٍ حضري أكثر استدامةً وشمولاً للجميع. 

 

 

مقاصد ومؤشرات هدف التنمية المستدامة رقم (11)، المتمثل في "جعل المدن والمستوطنات البشرية شاملة للجميع وآمنة وقادرة على الصمود ومستدامة" [2]

 

وعلى الصعيد العالمي، توجد مجموعة متنوعة من السياسات والمعايير الدولية والوطنية والمحلية بشأن إمكانية وصول الجميع إلى الخدمات الرقمية. ويتم العمل حالياً على خلق تجانس بين تلك المعايير ما بين دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لمواءمة 95 في المائة من أنظمة تمكين الوصول رقمياً. وتكفل معايير الوصول الرقمي، مثل القسم 508 في الولايات المتحدة و [3] EN 301549 لدى الاتحاد الأوروبي إتاحة وسهولة الوصول إلى محتوى الشبكة الإلكترونية والهواتف الذكية للجميع. وقد أصبحت هذه المعايير الآن منسجمة عالمياً إلى حدٍ بعيد. وتؤدي هذه الجهود المبذولة للتوحيد القياسي إلى تسريع إيقاع الابتكار وتنفيذ تحسينات تعود بالنفع على الجميع مثل تحويل النص إلى كلام منطوق وتقنيات التنبؤ بالنص المكتوب. وتطرح الأساليب الجديدة للابتكار الشامل الأسئلة المهمة التالية: كيف يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي أو البلوك تشين تحسين حياة الأشخاص الذين لا يستطيعون الرؤية أو السماع جيداً أو التنقل دون مساعدة؟

 

 

 

ما بعد التنمية والحقوق: جدوى تجارية قيمتها 9 ترليون دولار لبناء مدن ذكية تتيح للجميع إمكانية الوصول 

لا تعدّ المدن الذكية التي تتيح خدمات الوصول مجرد مسألة تنمية مستدامة فحسب. وهي كذلك ليست مجرد مسألة تتعلق بحقوق الإنسان. فالواقع يقول أن المدن الذكية التي تتيح خدمات الوصول للجميع مفيدة للأعمال التجارية أيضاً. ولنأخذ دبي نموذجاً. فمع إقرار قانون دبي رقم 2 للعام 2014 بشأن حماية حقوق ذوي الإعاقة، و"استراتيجية دبي لأصحاب الهمم 2020″، تؤكد الإمارة على مصلحتها الراسخة في لعب دور قيادي واظهار  أهمية التكنولوجيا في بناء مدن أكثر ذكاءً وشاملة وتتيح الوصول للجميع. ومن خلال دمج معايير الوصول في سياسات المشتريات الحكومية وتوحيد المنصات الرقمية بما يتماشى مع متطلبات الوصول العالمية، تعمل دبي على جسْر الفجوة بين الأفراد من ذوي الإعاقة وغيرهم. 

وليست تلك التطورات نتيجة للامتثال للمعايير فحسب، ولكنها أيضاً نتيجة تحليل البيانات التي لفتت انتباه القطاع الخاص إلى فرصة الوصول إلى سوق عالمية جديدة تتمثل في الأفراد من ذوي الإعاقة، والذين يمتلكون هم وعائلاتهم المباشرة دخلاً سنوياً يبلغ 9 تريليون دولار. وفي هذا الصدد لا يعدّ الوصول حقاً إنسانياً فحسب؛ بل هو فرصة تجارية للشركات كذلك. ويالوم تقوم حكومات المدن والحكومات الوطنية، التي تضع اللوائح المتعلقة بإمكانية الوصول وآليات الامتثال لذلك، بخلق سوق تستطيع من خلاله الشركات سد الفجوة الرقمية. وفي المقابل، أدى هذا الارتباط بين التنمية وحقوق الإنسان وأهداف العمل التجاري إلى استثمارات كبيرة في توفير امكانية الوصول الرقمي من قبل الشركات الكبيرة مثل أكسنتشر وجوجل وميكروسوفت. وبمعنى آخر، يضمن الاستثمار في ضمان شمول الجميع وتحقيق إمكانية الوصول، عائدًا استثمارياً كبيراً للمدن، وهو ما ينشط المنظومة بأكملها.

 

كيف يتسنى للمدن الذكية أن تبادل الجميع حبها؟ 

 

خارطة طريق السياسات لـ"عدم إغفال أحد" من خلال التحول الرقمي

الجميع يحب المدن الذكية. ولكن، كيف يمكن أن تبادل تلك المدن المحبة للجميع، بمن فيهم الأشخاص ذوي الإعاقة؟ في سعينا لبناء مدنٍ ذكيةٍ شاملة، هل وجدنا صيغة تتبنى ما تنادي به أهداف التنمية المستدامة حول "عدم إغفال أحد" والتحول الرقمي؟ اليوم، تكتسب معايير إمكانية الوصول الرقمية زخماً، ولكن يجب إدراج إمكانية الوصول والإعاقة في أجندات التنمية عموماً. وهنا، تلعب الجهات المعنية بالتنمية والقطاع الخاص، بالتنسيق مع الحكومات الوطنية والمحلية ومنظمات المجتمع المدني، دوراً رئيسياً في جسْر الفجوة الرقمية من خلال التمويل الذي يشمل الجميع، وتنفيذ المشاريع الكبرى في جميع أنحاء العالم. 

 

في دراسة بعنوان "التنمية الرقمية للجميع" أجراها "مختبر المدن الشاملة" بجامعة كاليفورنيا بيركلي،[4] وجد الباحثون أنه من بين 1200 مشروع تطوير رقمي نشط، 4 في المائة منها فقط تذكر الأفراد ذوي الإعاقة. وإضافةً لهذه الدراسة، استقصت مبادرة "المدن الذكية للجميع" رأي 180 من خبراء المدن الذكية والوصول الرقمي، ووجدت أن أقل من 20 في المائة منهم يعرفون بمبادرات المدن الذكية التي تستخدم المعايير الدولية بشأن إتاحة الوصول إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. كيف يمكننا ملء هذا الفراغ التوعوي؟ 

 

يجب على كلٍ من الجهات المعنية بالتنمية والحكومات أن تعطي أولويةً لإتاحة الوصول في مبادراتها الخاصة بالتحول الرقمي، إذا أردنا ألا نغفل أحداً. ويعدّ عقد الشراكات القوية بين مختلف أصحاب المصلحة، بما في ذلك القطاع الخاص والمجتمع المدني والأوساط الأكاديمية، عنصراً أساسياً لتطوير الأدوات والبيانات التي تدعم البلديات وممارسي أعمال التنمية في تحويل استراتيجيات إتاحة الوصول إلى خطة عمل تنفيذية.

 

ما هي الخطوات الاستباقية لنحقق التزاماً أكبر بتحقيق إتاحة الوصول الرقمي بهدف إدماج الجميع؟ 

 

  • جمع البيانات الخاصة بالإعاقة: بتصنيف البيانات حسب الإعاقة والجنس والعمر والجغرافيا، والتي تشير إلى فوائد إتاحة الوصول الرقمي للإدماج الاجتماعي والاقتصادي. 
  • استخدام لغة شاملة للإعاقة: استخدم لغة تتناول الإعاقة بصيغة تشمل الجميع في مستندات المشروعات والضمانات التي توضع لدى تطبيق المشروعات. 
  • تطوير مجتمعات ممارِسة لإتاحة الوصول الرقمي: الاستفادة من شبكات للتعلّم من الأقران وتبادل المعرفة في تعزيز الوعي وبناء مجتمعات من الممارسين، لتعميم الفوائد والبرامج المتعلقة بإتاحة الوصول الرقمي من خلال الربط بين الحكومات والقطاع الخاص والأوساط الأكاديمية ومؤسسات الأشخاص ذوو الإعاقة وكبار السن. 
  • إعادة تعريف معنى "الوصول للإنترنت": عند استهداف تحسين "الوصول إلى الإنترنت" (وهو هدفٌ تنموي سائد)، ينبغي تبنّي مبدأ إتاحة وصول جميع الشرائح إلى الإنترنت، بشكل لصيق مع مبدأ قدرة الفرد على تحمل تكلفة الاتصال بالإنترنت. ويجب عند قياس مدى الوصول إلى المعلومات والإنترنت، أن تشمل المقاييس عدد الأشخاص الذين يمكنهم "الاتصال بالإنترنت" (بما في ذلك ذوو الإعاقة) وأولئك الذين يمكنهم الوصول والاستفادة من "المعلومات المتوفرة على الإنترنت". 
  • اتباع نهج التحوّل الرقمي الشامل: يجب ضمان المشاركة الفعالة وإشراك الأشخاص من ذوي الإعاقة وكبار السن في التوصل إلى حلول التحوّل الرقمي عبر عمليات التصميم والتطوير المشتركة. 

 

 

إلى صنّاع المدن: أربعة أسئلة استرشادية لبناء مدن ذكية شاملة للجميع

عندما يقوم صانع السياسات بتطوير وتنفيذ استراتيجيات ومبادرات لتحسين مستوى إتاحة الوصول إلى مدن أكثر ذكاءً، عليه التمعّن في الأسئلة التالية خلال تنفيذ مهماته (أو مهماتها): 

 

  • هل تأكدت من تصنيف البيانات بشكلٍ شامل (لتشمل خاصةً الأشخاص من ذوي الإعاقة)، مع ضمان خصوصية البيانات الحساسة لكل فئة؟
  • هل قمت بعقد شراكات مستدامة بين وكالات التنمية والمنظمات التي تعنى بالأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن؟ إذا لم يكن ذلك قد تحقق، فكيف يمكننا تحسين هذا الواقع؟
  • هل قمت بتخصيص الموازنات المالية للجهات الحكومية والوكالات التنموية بشكل سليم، لضمان "عدم إغفال أحد" في جهود التنمية الرقمية، وخاصة الأشخاص ذوي الإعاقة؟
  • كيف يمكنك استخدام التكنولوجيا الرقمية في تحقيق آلية ملموسة لمراقبة ومتابعة مدى تطبيق المشاريع والسياسات بشكل يشمل الجميع؟

 

 

 

فيكتور بينيدا هو رئيس مؤسسة "عالم ممَكّن" ورئيس "التحالف العالمي لتيسير الوصول للتقنيات والبيئات" (GAATES). اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.

فيديريكو بواتيه هو مدير الشراكات في مؤسسة "عالم ممكّن". اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.

 

المصادر:

[1] منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي، التقرير الدولي حول اإلعاقـة (جنيـف، سويسـرا: منظمـة الصحة العالمية – 2011) : http://whqlibdoc.who.int/publications/2011/9789240685215_eng.pdf 

[2] مسـتهدفات ومؤشـرات مختارة لهدف التنمية المسـتدامة رقم (11 ،)المتمثل في "جعل المدن والمسـتوطنات البشـرية شـاملة للجميع وآمنة وقادرة على الصمود ومسـتدامة": https://sustainabledevelopment.un.org/sdg11

[3] لمعرفـة المزيـد عـن تلـك المعاييـر ولتحميل مجموعة أدوات الشـمول الرقمي، انظر الموقع: www.smartcities4all.org 

[4] تتوافر دراسـة "التنمية الرقمية للجميع: االسـتفادة مـن التنميـة الرقميـة فـي التنميـة العالمية" على الموقع اإللكترونـي ألمانـة منظمـة التعـاون االقتصادي والتنمية:https://medium.com/@worldenabled/digital-development-for-all-leveraging-digital-accessibility-in-international-development-bc909d610081

 

التعليقات

التعليقات 0

انضم إلى المحادثة