هل بمقدور المدن الذكية أن تساعدنا على تحقيق تنميةٍ مستدامةٍ ملموسة؟ لم يتبقَ أمامنا سوى عشرة أعوام قصيرة لإتمام تنفيذ أجندة العام 2030 لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، في وقتٍ أضحت فيه التنمية الرقمية محفزاً قوياً قادراً على مساعدة الحكومات في جسْر الفجوات التنموية والإسراع بخطوات واسعة نحو تنفيذ تلك الأهداف. ولقد أصبحت المدن الذكية والمستدامة، على وجه الخصوص، نماذج مصغرة لما نواجه من تحديات التحول في السياسات والحوكمة، خلال سعينا نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة. فعندها تتقاطع قضايا الحوكمة التي نواجهها عند تناول الأهداف التنموية مع ما يحمله لنا المستقبل الرقمي من وعودٍ وتحديات. كما باتت تلك المدن الميدان الذي تظهر وتتفاعل فيه ابتكارات السياسات العامة ومعضلات الحوكمة.
إذاً كيف يتسنى لحكومات الدول العربية إنجاز تلك التحوّلات الضخمة التي لا تخلو من مخاطر؟ والأهم من ذلك هو كيف يمكن تحقيقها بسرعةٍ لكن بأمان؛ وبمرونةٍ ولكن بنهجٍ شاملٍ لا يستثني أحداً؟ وبصياغة أخرى: كيف يمكننا تحقيق الوعود البراقة التي يحملها كلٌ من المدن الذكية، والحوكمة الرقمية، والسياسات العامة القائمة على البيانات، والاقتصاد الرقمي المبني على المعرفة، وتبنّي تطبيقات الذكاء الاصطناعي في جميع مناحي الحوكمة؟ كيف ننجح في تحقيق تلك الغايات الكبرى بوتيرةٍ مستدامة، من دون إلحاق الأذى بالمجتمع، أو الإضرار بالنماذج الاقتصادية الراسخة منذ عقود، أو تفكيك شبكات الأمان القائمة، أو التعدي على الحقوق الشخصية، أو التسبب باضطراباتٍ اجتماعية؟ ما نوع الأدوات التي نحتاجها لتنفيذ هذه السياسات؟ وما هي آليات الإدارة العامة التي تناسب سياق دول المنطقة؟ وما شكل هياكل الحوكمة التي تساعد في تحقيق هذه الأهداف، محلياً وعالمياً؟ وأخيراً، ما هي المهارات والقدرات التي تحتاجها كل حكومةٍ حتى تتجاوب مع التحديات التي تواجه شعبها خصيصاً، بخلاف ما تواجهه الشعوب الأخرى من تحديات؟
قبل عامٍ، صدرت "مجلة دبي للسياسات" لتكون مجلة عالمية رائدة قائمة على الفكر القيادي، وبرسالة تتمثل في تقديم توصياتٍ داعمةٍ للسياسات العامة، تستند إلى الدراسات والأبحاث والأدلة والنصائح العملية التطبيقية لكبار صانعي السياسات والمسؤولين الحكوميين. ويأتي هذا العدد الجديد للمجلة ليتناول بشكلٍ أكبر وأوسع نطاقاً الموضوع المحوري للعدد الافتتاحي: "سياسات عامة لمستقبلٍ رقمي". وتحديداً، يقدم هذا العدد تحليلاً عميقاً للعلاقة بين المدن الذكية والتنمية الرقمية باعتبارهما عاملين محفزين لتحقيق مستقبلٍ مستدام.
وبينما تطالع، عزيزي القارئ، ما ينطوي عليه هذا العدد من إسهاماتٍ قيّمة، يتضح لك الرابط الوثيق بين التنمية المستدامة من جهة والمدن الذكية والتنمية الرقمية من جهة أخرى. وسيظهر جلياً كيف أن أي فشلٍ لنموذج المدينة الذكية سيؤدي إلى خسارةٍ فادحةٍ لفرصٍ تنموية، قد تؤدي إلى وقوع اضمحلالٍ حضريّ ومجتمعي (تحذّرنا باردو في مقالها). إلا أن تقييم مدى نجاح المدن وقياس مستوى أدائها نحو المستقبل يعتبر عمليةً معقدةً للغاية، قد تنحو بنا إلى مساراتٍ مختلفة (يؤكد لانفين). وبما أن الواقع يشير إلى أن المدن سرعان ما ستصبح الحاضن الرئيسي لمعظم سكان العالم، فإن كنا جادين في مسعانا "ألا نغفل أحداً" في التنمية، فإن المدن التي تصبح "أذكى"، لكن بشكلٍ تقل فيه قدرة قاطنيها على الوصول إلى مرافقها، هي بمثابة خطوة للوراء تعيق تنفيذ العديد من أهداف التنمية المستدامة (ينبّهنا بينيدا وبواتييه). وقد أضحت الدول العربية تَعرِف اليوم موقفها بكل دقةٍ من أهداف التنمية المستدامة؛ كأيها يحتاج تحقيقه بذل المزيد من الجهود، وماهيّة البيانات المحلية التي علينا جمعها، وكيفية تحديد أولوياتنا في هذا الصدد، علاوةً على ضرورة وحتمية التنسيق فيما بيننا (تثبت لنا لومي). وأمامنا العديد من الدروس من شتى دول العالم حول هيكليات الحوكمة الجديدة ومقاربات السياسات المبتكرة التي يمكننا أن نحذو حذوها (يكتب فيسون، ليندبرغ وموراليس، من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية). علماً أن تحقيق تقدمٍ في درب مستقبلٍ مستدام، أمرٌ يستلزم اتخاذ خطوات تحولٍ اقتصاديّ لا تخلو من الصعاب والآلام (يذكّرنا أرزقي من البنك الدولي). وهي غايةٌ تحتّم تبنّي نهج حوكمةٍ مرنٍ، وتحمل خطوات مؤلمةٍ للتجاوب مع التغيرات الاجتماعية الملحّة في العصر الرقمي (يكتب سانتيسو من بنك التنمية في أمريكا اللاتينية). وهنا، نكون بحاجةٍ إلى أدوات سياساتٍ متكاملة قادرة على دعم إنتاج أثرٍ وقيمةٍ حقيقيتين، وقياسهما في منظومة صنع السياسات التي لا تخلو من التعقيد (يوضح لنا أندروز وسامجي). لكن الحكومات لن تتمكن من قيادة تلك التحولات الكبرى بمفردها، وخاصةً في ظل التحديات الهائلة التي تواجه منطقتنا. إنها بحاجة إلى تمكين القيادات المجتمعية والتعاون مع رواد التغيير القادرين على والراغبين في تنفيذ تلك التدخلات التنموية واسعة النطاق (توضح جلبوط). ونجد على المستوى الاستراتيجي أن حكومات دول المنطقة بحاجة إلى أجندة تنموية شاملة جوهرها التحول الرقمي (يكتب الشربيني من لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا). ولسوف يعتمد شطرٌ كبيرٌ من تلك الأجندة على بناء اقتصادٍ رقمي قادر على التصدي لتحديات المستقبل، ومستوعِبٍ لمقتضيات حقبة اقتصاد المعرفة (يشير الخوري). على أن الدول الساعية إلى تنفيذ تلك الأهداف التنموية الطموحة يلزمها تحديد الصيغة والسياق الملائم لكل منها، حتى يتسنى لها التبني الناجح لنهجٍ يعتمد التحولات المبتكرة، كالحوكمة الرقمية التي تعتمد تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتستند إلى البيانات في عملها (يكتب الظاهري).
لا يعتبر الدرب الذي تخطو عليه دول منطقتنا نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة بالممهّد الميسّر. فالتحديات والمعوقات أمامها عديدة ومتنوعة، في ظل خارطة طريق غير واضحة المعالم بعد، لا يمكن للقادة الاعتماد عليها بثقة. وفي سبيل مساعدة صانعي السياسات في خوض هذه الرحلة الطموحة، نقدّم في هذا العدد من "مجلة دبي للسياسات" مجموعةً محكمةً من المقالات التي تشتمل على محتوى ثري من البيانات، والتوصيات، والأدوات، والخطط التنفيذية، والنصائح، والتنبيهات. وتأتي جميع الإسهامات المستنيرة في هذا العدد بمثابة مرجعٍ مهم يقدم لائحة واسعة من الخيارات على مستوى السياسات، ويضعها بين أيدي القيادات الحكومية في دول المنطقة.
إن جوهر فلسفة ونهج "مجلة دبي للسياسات" هو تحقيق القيمة والمساهمة في جهود الارتقاء بالحوكمة نحو الأفضل، وتحقيق جودةٍ أعلى في مقاربتنا للإدارة العامة، والوصول إلى سياساتٍ تُحدِث فارقاً وتأثيراً ملموساً. وأملنا هو أن تجد القيادات الحكومية في الفكر الرائد المطروح عبر المجلة ما ينير لها الطريق ويساعدها في إدارةٍ مرنةٍ ومسؤولةٍ ومستدامةٍ للخطط التنموية التي تستجيب لحاجات شعوبها، بما يكفل مستقبلاً أفضل لدول المنطقة.
فادي سالم
رئيس التحرير
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.