رؤية من منظور السياسات العامة

يواجه مدراء مؤسسات وهيئات القطاع العام في خضم سعيهم لخلق قيمة مضافة للمجتمع تحدياً ثلاثيّ الأبعاد، يتمثل في: محاولة تطبيق الحوكمة بشكل تعاوني، بهدف إيجاد منهجيات عمل على المستوى الاستراتيجي، لحل مشاكل مزمنة وفائقة التعقيد، بل و"خبيثة"، في عصر من التحولات الرقمية المتسارعة. وفي هذا السياق، تعمل الحوكمة التعاونية على تعزيز الابتكار من خلال استغلال القيمة الكامنة المتواجدة على امتداد القطاع العام، بشكل يتخطى الحدود والصلاحيات التنظيمية. ومع أن فوائد ومنافع الحوكمة التعاونية جزيلة ووفيرة، إلا أنها تأتي بنصيبها من التحديات أيضاً.

بهذا الصدد، تُعدّ "المشاكل الخبيثة" بحكم التعريف، قضايا متشابكة وشائكة، تنشأ نتيجة عدة أسباب وعوامل معاً، وتتميز بعدم الاستقرار والتغير المتواصل والسريع، إضافة إلى كونها عالية التعقيد على المستوى الاجتماعي. وفي مقالنا هذا، ندعو القادة إلى النظر إلى التحوّل الرقمي على أنه "مشكلة خبيثة" مزمنة، وذلك ليتمكنوا من تشكيل فهم أعمق للتغيرات الجذرية التي يحدثها التحول الرقمي في الممارسات الإدارية التقليدية، ولمعرفة الطريقة المثلى للسير قدماً في خضم هذه المعضلات. سيتوسع هذا المقال في هذه المفاهيم، ويقدم توصيات حول السبل التي ينبغي على القادة وصنّاع السياسات انتهاجها لتعزيز عملية صنع السياسات ومخرجاتها بشكل فعال، وذلك كي يتمكنوا من إنتاج القيمة العامة للمجتمع في هذا العصر الرقمي.

إنتاج القيمة العامة في خضم التحول الرقمي

يأتي التحول الرقمي مرفقاً بطيف واسع من التحديات المُحيّرة. وكي نتمكن من العبور من خلال تلك التحديات، يتوجب أن تتضمن الاستراتيجية التي ننتهجها توجهاً مُقنعاً وعقلانياً، وتحديداً واضحاً للأولويات للتمييز بين الأمور التي "يستحسن القيام بها" من الأمور "الواجب القيام بها استراتيجياً". وعلى الرغم من ذلك تكتفي الكثير من الاستراتيجيات الرقمية بمراكمة المشاريع التي ينظر إليها على أنها "جذابة" وشائعة لتطوير واستخدام الجديد والمثير من الأدوات والمنصات والتقنيات، إلا أنها تعاني من افتقارها لوضوح التركيز، وعدم الاعتماد على التفكير المعمق فيما يتعلق بالنتائج والأهداف بعيدة المدى التي يتعين تحقيقها. ويُعدّ التحول الرقمي مشكلة "خبيثة" فائقة التعقيد بسبب انطوائه على مستويات عالية من الغموض، والتعقيد، والتشابك، إضافةً إلى حاجته للتكيّف بشكل متواصل. وفي هذا السياق، لم تعد الاستراتيجيات التقليدية التي تنتهج في الإدارة العامة كافية للتصدي لمثل هذا التحدي. فالمدراء التنفيذيون وقادة القطاع العام لا يخلقون قيمةً عامة[1] إلا عندما يسعون بفعالية نحو تحقيق رسالة طموحة ومهمة؛ وحشد وجذب الدعم لهذه الرسالة خارجياً من الجهات الرئيسية المعنية، ومن ثم تطبيق عمليات مُحكَمة وإجراءات إدارية حازمة إلى أن تتحقق الرؤية على أرض الواقع.

وتضع المشاكل الخبيثة فائقة التعقيد، قادةَ القطاع العام أمام إشكالية إشراك مختلف الجهات المعنية وأصحاب المصلحة، على شتى مستوياتهم، وبوجهات نظرهم المتنافسة، ومن ثم بناء استراتيجيات إدارية قادرة بكفاءة على التعامل مع درجات عالية من اللايقين والغموض والتطورات دائمة التغير. ولذلك تتطلب الحوكمة المعاصرة وجود قادةٍ من أصحاب الرؤى ومدراءَ تنفيذيين في القطاع العام قادرون على التركيز على المدى الاستراتيجي، وعلى خلق مثل هذه القيمة العامة، بدلاً من الاكتفاء بمجرد تطبيق الإجراءات والتدابير الإدارية الروتينية.

في هذا السياق، غالباً ما تكمن التحديات التي يشهدها عصرنا الحالي في طبيعتها العابرة للحدود القانونية والمؤسساتية والجغرافية. وعلى الرغم من أن العديد من المشاكل والتحديات يُمكن حلها من خلال العمليات التقليدية المستندة إلى لائحة قوانين عامة مطبقة داخل المؤسسة أو عبر عدة مؤسسات، إلا أن بعض المشاكل والتحديات الأخرى لا يمكن حلها بانتهاج هذه السُبل. فإن أخذنا مسائل الأمن القومي على سبيل المثال، فسنجد أن تحديات هذا القطاع تتطلب إشراك خبرات من طيف واسع من الجهات المعنية المختلفة، لكن هذه الجهات غالباً ما لا تُحبّذ التواصل مع بعضها البعض. وكمثال آخر، نلحظ أن الخدمات الموجهة لفئة الشباب تنطوي على مجال متنوع من الخبرات التي تنتمي إلى وزارة العمل والتعليم والصحة وغيرها من الوزارات. أما تغير المناخ وغيره من المسائل البيئية فهي عابرة لحدود شتى المناطق الجغرافية، ومختلف الصلاحيات الإدارية، وعبر مستويات الحكومة المختلفة.

 

في حين تؤكد الحوكمة التعاونية على أهمية الإدارة العابرة للحدود في عالم مترابط ومتشابك إلى حد بعيد، إلا أن المشاكل فائقة التعقيد تتطلب ما هو أكثر من القدرة على العمل في بيئات عابرة للحدود، مع العلم أنها المهارة التي تشكل نقطة انطلاق أساسية للتصدي لهذا النوع من المشكلات. فمصطلح "التعاون عبر الهيئات"[2] يفصّل لنا كيفية تحقيق هذا التعاون بين شتى الهيئات الحكومية، ما يشير إلى ضرورة اكتساب المهارات الإدارية وإدارة الفريق بغية إنماء التعاون. إلا أن التحديات الهيكلية والمؤسساتية، بما فيها القوانين وأطر العمل القائمة، لا بد أن تُعدّل أيضاً. فعلى سبيل المثال، هل توجد قوانين قائمة تحظر تبادل المعلومات والعمليات بين هيئتين حكوميتين؟ وهل تسمح قوانين الميزانية والمحاسبة باستخدام التمويلات المخصصة لكل هيئة في هيئات أخرى؟ وهل تسمح هذه القوانين بإنشاء ميزانيات مشتركة؟ وهل الهيئات المُشرفة والرقابية تركز على فعالية الشراكة بين الهيئات أو تصب اهتمامها فقط على الهيئات والبرامج الحكومية كلّ على حدا؟ توضح لنا هذه التساؤلات أن العقليات البيروقراطية التقليدية والقوانين القديمة تعرقل بالفعل الشراكات العابرة للحدود.

المشاكل الخبيثة فائقة التعقيد.. ما هي بالضبط؟

  1. تتسم المشاكل فائقة التعقيد بأنها هي ذاتها صعبة الفهم والتحديد. وهي تتصف بمستوى عالٍ من عدم الانتظام، والاعتماد المتبادل (التشابك)، وتعدد الأبعاد والتعقيد.
  2. يصعب أن نعرف متى تحلّ المشكلة وما إن حُلّت في الأساس أم لا، لأنه ما من حلّ بسيط ومباشر لها، وغالباً ما يختلف الخبراء حول الحلّ المطروح، إضافة إلى ضبابية معايير وضع الحلّ، أو قياس نجاحه. بالتالي، ليس أمام الجهات التي تُطرح أمامها مثل هذه المشاكل إلا محاولة تحديد أفضل وأسوأ الحلول الممكنة، لأن معايير ماهية الحل، من ناحية تحديد نجاحه، تبقى مجهولة.
  3. تتسم المشاكل الخبيثة فائقة التعقيد، بحكم الاسم، بمستوى عالٍ من التعقيد والتشابك بين عدة عناصر مختلفة ومتباعدة، مما يجعل التخطيط للحلول باتباع نمطٍ خطي وتراكمي في فضاء المشكلة إما مستحيلاً أو شديد الصعوبة. كما يبقى انتهاج سبيل المقارنات مع المشكلات الأخرى ذا فائدة جزئية فقط وقد تؤدي إلى تضليل واضع الحل وسوء فهم المشكلة المعنية.

التعامل مع الأليف والجامح: التصديّ للمشاكل الخبيثة فائقة التعقيد

تُعرّف المشاكل الخبيثة فائقة التعقيد بأنها مشاكل تنطوي على مستويات عالية من الاعتماد المتبادل (اعتماد عنصر ما على آخر) والتعقيد والغموض. ومما يزيد الطين بلة، أن تعريف هذه المشاكل ووصفها ووضع الحلول المحتملة لها، غير مفهومة ومُدركة بشكل جيد على نطاق واسع، وعادة ما تعاني من الاختلاف الشديد بين آراء الخبراء من مختلف المجالات والحقول أو الجهات المعنية التي لديها مصالح واهتمامات ووجهات نظر مختلفة. وذلك غير مستغرب نظراً لتعدد طبقات التعقيد التي تتسم بها مثل هذه المشاكل، ولأن اتخاذ أي خطوة نحو الحلول غالباً ما ينجرّ عنها نتائج سلبية غير متوقعة، أو تتعرض فجأة لتأثير عوامل خارجية مفاجئة تغيّر أصلاً من تعريف المشكلة التي وضعت تلك الحلول لها.

ومن ناحية تاريخية علمية، عرّف المؤلفان: هورست دبليو. جي. ريتل وميلفن دبليو ويبر المشاكل الخبيثة فائقة التعقيد لأول مرة سنة 1973، في مجلة علوم السياسات (Policy Sciences) على أنها تلك المشكلات التي تتسم بعدم وجود "سبيل واضح لوضع حلّ مثالي لها، مع غياب إجماع من الخبراء على الحلّ المثالي لها، بل ولا تحظى بأي تحديد دقيق لحدود المشكلة محلّ النقاش"[3].

إن هذا النوع من المشاكل غالباً ما يتجنبه المدراء في القطاع العام ببساطة، نظراً للصعوبة البالغة للتصديّ لها، والتعقيد الكبير لعملية إدارتها وتشابكها الشديد الذي يستحيل أحياناً فرزه. وفي بعض الأحيان، يحاول المدراء تطبيق المناهج الخطية (التقليدية) لحل مثل هذه المشاكل لكن دون تحقيق قدرٍ كبيرٍ من النجاح، بل وأحياناً يؤدي هذا النهج إلى تفاقم مستوى تعقيدها وصعوبتها.

وبعد دراسات وبحوث، وجد خبراء تحليل السياسات وإدارة الأعمال أن المشاكل فائقة التعقيد تتطلب عقليةً إداريةً مختلفةً، إضافةً إلى منهجيةٍ في تطبيق السياسات تختلف عن تلك المناهج المرسومة للتحديات المنتظمة العادية (الخطية). ذلك أن المشاكل الخبيثة فائقة التعقيد تنطوي على تحديات إدارية استراتيجية[4] محددة، منها:

  • تعدد الجهات المرتبطة بهذه المشاكل، واختلاف أولويات ووجهات نظر هذه الجهات.
  • امتلاك هذه المشاكل لجذورٍ، أو أسباب وعوامل شديدة التشابك يصعب فهمها واستيعابها وفصلها عن بعضها البعض.
  • كونها مشاكل متغيرة تتحول طبيعتها كلما طبق صانعو القرار حلولاً وقرارات مختلفة لحلها. وذلك يسمي بعض خبراء تحليل السياسات هذه المشاكل بـ"المشاكل الإسفنجية".
  • لا يوجد مشاكل سابقة مشابهة لهذه المشاكل فائقة التعقيد، أي أنها بلا سوابق يمكن الرجوع إليها. ومع أن المقارنات قد تجد (بالتقريب) مشاكل مماثلة لهذه المشاكل فائقة التعقيد، إلا أن الطبيعة الفعلية لها تظل فريدة من نوعها.
  • صعوبة تقييم وتحديد ما إن كان صناع القرار قد اتخذوا القرارات الصائبة للتصدي لهذه المشكلة أم لا.

تمثل المشاكل الخبيثة فائقة التعقيد للقادة والمدراء تحدياً عابراً للمجالات والقطاعات من البيئة إلى الأمن وحتى الاستخبارات. وتعتبر مشاكل مثل التغير المناخي، والإرهاب، والتحول الرقمي مثالاً جيداً على التعقيد، والمستوى الاستثنائي للتشابك والاعتماد المتبادل والغموض المتأصل في المشاكل الخبيثة فائقة التعقيد. تُحتم هذه التحديات المعقدة على القادة أن يوسّعوا آفاق تفكيرهم، وأن يسعوا بهمة ونشاط إلى استقراء وجهات نظر مختلفة، وبناء شبكات من الخبراء تمنحهم آراء متفاوتة ومتعارضة، وأن يطلقوا عدة مشاريع وتجارب للمضي قدماً بخفة، واستنباط الدروس من الإخفاقات، كما من النجاحات.

كيف يمكن أن يتصدى القادة للمشاكل الخبيثة فائقة التعقيد؟

  1. إشراك الجهات المعنية وإنشاء قنوات تواصل فعالة تصب فيها مختلف منابع الخبرة، مع عدم التغافل عن وجهة نظر المواطنين والجهات المدنية المحلية، وضرورة البقاء منفتحين على مختلف الرؤى.
  2. التركيز على القِيم الشاملة، والأهداف الأساسية، مع ضمان رؤية موجِهة واسعة النطاق.
  3. اتخاذ خطوات تدريجية كلما أتيح ذلك، لسبر أبعاد المشكلة، واختبار الحلّ، والتعلم من الأخطاء والنجاحات. ومن ثم تحديد مجموعة صغيرة من الإجراءات القابلة للتنفيذ. والتجريب وإدارة المشاريع/المبادرات الاختبارية. ثم المضيّ قدماً وفق النتائج المرحلية الجزئية التي تم تحقيقها وفي ذات الوقت الاستمرار بتحسين فهمنا للمشكلة المعنية بالحلّ. وكل ذلك مع إيجاد سُبُل تسمح بهامشٍ للأخطاء، مما يتيح للمبتكرين تجريب مبادرات/مشاريع صغيرة النطاق، والتحضير للتوسع عند تحقيق النتائج المرجوة.
  4. انتهاج عقلية منفتحة نحو مجموعة متنوعة من السيناريوهات المستقبلية، وإدارة "اللامتوقع" من خلال رصد ومراقبة البيئة المعنية بغية التأقلم بسرعة وفعالية.

تعمل أنظمة الإدارة التي تتمتع بالقدرة على سرعة التأقلم عند اللزوم، وأساليب التفكير القائمة على مناهج التصميم، وورش العمل، والمختبرات، والعمليات الابتكارية، إلى "زعزعة" التفكير العادي المنتظم ذو الطبيعة الخطية، وبالتالي تمكيننا من إدراك الطبيعة "الخبيثة" وفائقة التعقيد التي تتسم بها التحديات المعاصرة.

ويوصي خبراء إدارة النُظم "باتباع المناهج الكٌليّة للتصديّ لحل المشكلات فائقة التعقيد" عوضاً عن أطر العمل القديمة القائمة على مبدأ التوازن.[5] ينطوي هذا على إشراك عدة قطاعات في عملية صنع القرار، ورعاية التغير المؤسساتي لإنماء تعاون عابر لحدود الهيئات والهياكل الإدارية، وتوسيع مفهوم الأسواق ليشمل أيضاً "الرأسمال الطبيعي"، وتعمد معالجة حالات عدم المساواة التي قد تنشأ عندما يتم تجاهل بعض الأطراف الرئيسية المعنية بالمشكلة. وتستند هذه المقاربات إلى الفكرة القائلة بأن عملية حل المشاكل بشكل عابر للهيئات والهياكل الإدارية، وإطلاق المشاريع التجريبية على المستوى المحلي قد يولدان نوعاً من المعرفة المرحلية المباشرة، التي تعذّ عنصراً أساسياً للاقتراب من حل المشاكل الخبيثة فائقة التعقيد. وفي هذا السياق، قد تبدو في بادئ الأمر، أساليب العمل الموجهة من قمّة الهرم إلى القاعدة (كمبادرات التغيير التي تأتي من الإدارة العليا) هي المقاربات الأيسر لحل هذا النوع من المشاكل، إضافةً إلى أنها تتيح للمدراء التنفيذيين أن يُبقوا على هالة السيطرة التي تحيط بهم، إلا أن هذه المقاربات في الواقع قد تفاقم من حدة المشاكل الخبيثة فائقة التعقيد بدل الاقتراب من حلها أو تخفيفها.

 

فلنأخذ مثلاً الأهمية المتنامية للمدن الذكية، التي تعد فئة فرعية صغيرة من عملية التحول الرقمي عموماً. وهنا، يتعين على القادة أن يتساءلوا: ما معنى وصف "الذكية" المرافق لكلمة "المدن"، يعني ما هي أوجه الذكاء المقصود هنا؟ هل تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تشتمل عليها المدن الذكية مثلاً هو نوع "الذكاء" المطلوب للقضاء على الفقر، وزيادة فرص العمل، والسيطرة على انتشار التلوث، وبث روح ريادة الأعمال والإبداع في أوصال المجتمع؟ ما هي أهم الأهداف الشاملة للمدن، وكيف يساهم التحول الرقمي في تحقيق هذه الأهداف المرجوة؟ يستطيع صناع السياسات، من خلال فسح المجال أمام شراكة المواطنين والمشاريع التجريبية المحلية، التعلّم (مرحلياً وتدريجياً) على نطاق صغير وتعزيز قدراتهم على الابتكار التقني.

التعامل مع التحول الرقمي بصفته مشكلة خبيثة فائقة التعقيد

ينبغي على القادة والمدراء أن ينظروا إلى التحول الرقمي باعتباره مشكلة خبيثة فائقة التعقيد. ذلك أن التحول الرقمي يطرح تحديات لا يمكن التصدي لها بواسطة جمع المزيد من البيانات والمعلومات، واستخدام الطرق التقليدية لحل المشاكل أو الطرق القديمة في رسم الاستراتيجيات. إذ أن الطبيعة الثورية للتحول الرقمي والتغييرات الجذرية التي يحدثها، ترتبط أكثر بالأفراد وطرق استخدامهم لهذه التقنيات أكثر من ارتباطها بالتقنيات الحديثة نفسها. وتعد الطبيعة "اللامتوقعة" والمفاجئة للتغير التقني أحد الأسباب التي تجعل التحول الرقمي يأتي معه بفرص واعدة ومخاطر كارثية في ذات الوقت.

إن البلدان والشركات التجارية والحكومات لا تقوم ببساطة "بالتحول" لأن هناك تطورات هامة في التقنيات الرقمية يجب تبنيها. بل أن طرق تفاعل الناس والمؤسسات مع تلك التقنيات واستخدامهم لها و"استحداث" تقنيات جديدة تشكّل التحوّل الرقمي ذاته.[6] وقد أثبتت الدراسات أن فجوات اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية المتنامية باستمرار هي نتائج للتحول الرقميّ، خاصةً في حال لم يسارع صناع السياسات إلى علاج تلك التفاوتات بشكل استباقيّ. ومن ناحية أخرى، تتطلب المهن وفرص العمل والوظائف والقطاعات الجديدة أنواعاً جديدة ومبتكرة من التعليم والتدريب. ومن أجل رسم الطريق للمضيّ قدماً، لا بد من فتح قنوات التواصل مع شتى الجهات المعنية التي يحمل كل منها وجهات نظر مختلفة. إذ ليس في مقدور الخبراء التقنيين وحدهم حلّ التحديات التجارية والحَوكميّة والاجتماعية التي يسفر عنها التحول الرقمي.

يتعين على القادة كذلك الأخذ بالحسبان "النطاق الواسع" الذي يشمله التحول الرقمي. حيث يمتد العصر الرقميّ على فترة زمنية تتراوح من 25 إلى 50 سنة مضت، حدث فيها انتشار تقنيات المعلومات والاتصالات الرقمية واختراقها -تقريباً- لكل مجال من مجالات الاقتصاد والمجتمع والحوكمة. ولازالت المنتجات والأدوات والخدمات والمنصات الرقمية، أضف إليها الحواسيب الشخصية والهواتف الذكية واتصالات النطاق العريض وشبكة الإنترنت والخدمات السحابية وقنوات التواصل الاجتماعي، وتقنيات الذكاء الاصطناعي والروبوتات وإنترنت الأشياء، في تقدم مستمر، ولا زال انتشارها ماضياً (وإن بوتيرة متفاوتة السرعة) في شتى القطاعات والصناعات والحكومات والمجتمعات. اليوم، بالكاد شرعت الدول في قياس مدى تبني هذه التقنيات ودراسة آثار التطورات الرقمية على المدى القريب، الأمر الذي لا بد منه لرسم استراتيجيات وخطط تنفيذ متسقة وملائمة.

 

بهذا الصدد، يظن بعض الخبراء أن التحول الرقمي هو مجرد تحول المعلومات والبيانات من كونها تُخطّ على الورق إلى شكلها الرقمي، إلا أن التحول الرقمي في الحقيقة يشير إلى التفاعلات الاجتماعية المتغيرة في ظله وإلى نماذج الأعمال التجارية التي عدّلت نفسها لموائمته أو استندت أساساً إلى خلق قيمة اقتصادية بناءً عليه. إن التحول الرقمي يشير إلى تغيرات أعمق، وأكثر شمولاً واتساعاً تطال الهياكل الصناعية والحَوْكميّة والنُظم التقليدية بمختلف أنواعها. ومما يزيد طبيعته تعقيداً هو أن التحول الرقمي يخترق القطاعات والصناعات والمؤسسات والشركات والوظائف والمهن بعمق وسرعات متفاوتة إلى حد كبير. حيث يؤكد تحليل أجري على اتجاهات التحول الرقمي أن المهن والوظائف في الطرفين الأعلى والأدنى للاقتصاد تنمو باضطراد، إلا أن الوظائف الوسطى لا زالت مستمرة بالتناقص.[7] وفي هذا السياق، من شأن تنفيذ استراتيجيات خاصة بالتدريب والتعليم ضمان أن قنوات التوظيف ستظل تضخّ قوة عاملة تتميز بالمهارات والخبرات اللازمة للشركات والمؤسسات الرقمية. بالإضافة إلى ذلك، تتجه بؤرة التركيز حالياً بشكل متنامٍ نحو ما يستطيع البشر فعله ولا تستطيع الحواسيب إنجازه. تُسفر المشاكل الخبيثة فائقة التعقيد، بحكم تعريفها، عن نتائج غير متوقعة يقع بعضها خارج صلاحيات بعض الهيئات الحكومية والقانونية المكلفة بالتحول الرقمي. وهكذا تنبت التحديات في الصدوع المتشكلة بين القطاعات والهيئات المختلفة، مما يجعل حلها مستحيلاً في حال عدم إشراك مختلف الجهات المعنية في عملية رسم سياسات التحول الرقمي.

 

إن التحول الرقمي، عند أخذه بوصفه مشكلة خبيثة فائقة التعقيد، يتطلب التجريب، وإطلاق مشاريع أولية، والرصد السريع للنتائج المرحلية وتلقي ردود الأفعال والآراء بغية تحسين فهمنا للمشكلة وتعميقه أكثر. مع ذلك، من الوارد أن يصبح التجريب فخاً: حيث تشير التجربة الإدارية التنفيذية مع التحول على المستوى المؤسساتي إلى أن التجريب عملية أسهل بكثير من جمع النتائج من مثل تلك المشاريع التجريبية الأولية بغية توسيع نطاق الممارسات الناجحة وتمكين التحوّل.[8] ولذلك، ومن أجل رسم أهداف المؤسسة الاستراتيجية وتمهيد سُبل المضي قدماً، لا بد أن لا يحدث الاستخدام الاستراتيجي للتقنيات الرقمية إلا عبر سلسلة من القرارات (والأحكام) الإدارية النشطة، وليس بمجرد اطلاق لمبادرات قائمة على التقنية.

مع أنه ما من شك في أن التحول الرقمي يحقق نتائج أفضل وأسرع وأقل تكلفة على المدى القصير، إلا أن إدارة التحوّل لخلق قيمة عامة أشمل يستلزم عملية عميقة من إعادة التفكير وإجراء تعديلات مناسبة على الحوكمة ونماذج العمل التجارية والشراكات والهياكل المؤسساتية. وفي هذا السياق، كثيراً ما نجد المؤسسات الكبيرة تتبنى مئات العناصر من التقنيات والتطبيقات الجديدة في نفس الوقت. ومع أن التمييز بين هذه الاستثمارات ونتائجها المحققة قد يبدو عملية مرهقة وشاقة، إلا أنه غالباً ما يسفر عن انتشار أوسع لتجارب مثيرة للاهتمام. لكن المشكلة أن جزءاً بسيطاً من التركيز والتفكير فقط يخصص للتغيير الاستراتيجي والعمل على نشر المبادرات الواعدة والمُبشّرة. وهذه الخطوة الأخيرة تحديداً تستلزم بذل جهودٍ كبيرة لإدارة التغيير عبر المؤسسات التي تتطلب أحياناً حدوث تغييرات ثورية، بل وزعزعة، مؤلمة للسلطة والإدارة العليا والموارد المخصصة لتلك المؤسسة والقوانين والأعراف التي تمضي بها. ونظراً لأن إجراء التغيير على مستوى المؤسسة مُكلّف مادياً، يتعين على المؤسسات إذاً أن تبدأ فيه برسم استراتيجية شاملة تتضمن القيم والمبادئ التي يمكن للمؤسسة أن تمضي فيها قدماً بشكل مرن، والتي تحدث بدورها اندماجاً بين المكاسب الناجمة عن المبادرات قصيرة الأجل والتحولات الرقمية التي تحدث على المدى الطويل، والتي بدورها تنشأ بعمق وتتوسع بشكل طبيعي من خلال التعلم والتقدم.

إعادة التفكير في التحول الرقمي في العالم العربي

ندعو في هذه المقالة الموجزة القادة والمدراء إلى التفكير في التحول الرقمي من منظور المشاكل الخبيثة فائقة التعقيد والخصائص التي تميزها. فالتحول الرقمي يمثل حالة استثنائية من المشاكل الخبيثة فائقة التعقيد، التي لا يمكن للمرء تفاديها، والتي تأتي بآفاق واعدة عظمى وتهديدات وعواقب خطيرة في ذات الوقت. وفي الآونة الأخيرة، شرع القادة في العالم العربي في رسم استراتيجية للنهوض بالاقتصاد الرقمي عبر كافة البلدان المنطوية تحت مظلة "جامعة الدول العربية". وقد كانت العديد من البلدان العربية قد وضعت بالفعل استراتيجيات للحكومة الإلكترونية والاقتصاد الرقمي. ونقدم هنا دعوة للقادة لدراسة الآفاق الواعدة التي سيسفر عنها تعزيز مستوى أكبر من إشراك مختلف الجهات المعنية، وفتح قنوات التواصل بشكل أوسع، ومحاولة حل مشكلات التحول الرقمي، وإجراء التجارب بسرعة وخفة، والعمل بمرونة على رسم سُبُل المضي نحو المستقبل؛ كل ذلك في إطار رؤية شاملة تتضمن القيم والأهداف الرئيسية الرامية لبناء مستقبل الحكومة.

 

جين فونتاين أستاذة متمرسة في العلوم السياسية والسياسات العامة بجامعة أمهرست، ومؤسِسة ومديرة المركز الوطني للحكومة الرقمية. اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.

 

المصادر:

  1. https://www.weforum.org/whitepapers/government-government-with-the-people-a-new-formula-for-creating-public-value
  2. http://www.businessofgovernment.org/report/implementing-cross-agency-collaboration-guide-federal-managers
  3. http://www.sympoetic.net/Managing_Complexity/complexity_files/1973%20Rittel%20and%20Webber%20Wicked%20Problems.pdf
  4. https://hbr.org/2008/05/strategy-as-a-wicked-problem
  5. https://www.researchgate.net/publication/316286606_Ecosystem_management_as_a_wicked_problem
  6. https://www.brookings.edu/book/building-the-virtual-state/
  7. https://www.brookings.edu/research/digitalization-and-the-american-workforce/
  8. https://www.weforum.org/reports/the-digital-enterpise-moving-from-experimentation-to-transformation

التعليقات

التعليقات 0

انضم إلى المحادثة