قد لا يختلف مستوى صعوبة التحديات التي يواجهها موظفو الخدمة المدنية وقادة القطاع العام في هذا العصر مقارنة مع العصور الماضية، إلا أنه ما من شك في اختلافها وفرادتها عن التحديات السابقة. ويعود مصدر المشاكل التي تواجهها المجتمعات اليوم إلى وجودها في عالم يتسم بالتعقيد المتزايد، وفرط الاتصالية (عبر وسائل الاتصال فائقة الانتشار) ومستوى عالٍ من الغموض. وفي هذا السياق، يعتبر دور القطاع العام في إنشاء وتطوير حلول مبتكرة دوراً حيوياً لا غنى عنه.

لكن وعلى الرغم من الحاجة الواضحة للابتكار العام، إلا أن موظفي القطاع الحكومي (عندما طلبنا منهم مناقشة التحديات التي يواجهونها ضمن ورشات عمل ومختبرات مبادرة "التشكيل الجديد") [1] يميلون إلى طرح وجهة نظر ضيقة الأفق، نادراً ما تخطت الحدود التي رسختها هيئاتهم ومؤسساتهم التي يعملون فيها. ومع أن الإصلاحات الحديثة التي أجريت على القطاع العام شجعت التوجه نحو تحقيق الكفاءة والإنتاجية، إلا أنها تسببت أيضاً في رسم وجهة نظر ضيقة الأفق بل وأحياناً وجهة نظر مشوّهة عن حجم دور الحكومة في المجتمع.

لا غنى عن الأفكار والمبادئ. لأن الطريقة التي يفكر بها المرء لها تأثير مباشر على الحلول التي سيجدها والنتائج التي ستحققها تلك الحلول. ونظراً لأهميته المتزايدة، حظي موضوع "الابتكار في الحكومة"، بمستوى كبير من الاهتمام على مدى السنوات الأخيرة. وقد تمحورت معظم المبادرات في هذا المجال حول "الاستبطان"، أي المراجعة الذاتية الداخلية، مع إيلاء تركيز خاص على تحديث أنظمة القطاع العام وممارساتها الإدارية فضلاً عن مهام الحكومة في تقديم الخدمات العامة. وتمثلت بؤرة الاهتمام والتركيز في هذه المباحثات والنقاشات في الابتكار في القطاع الحكومي، ونتيجة لذلك أغفلت هذه المباحثات أهم مساهمات الحكومة في "الابتكار العام".

 

 

 

 

 

الابتكار في القطاع الحكومي

 

تنص القصة السائدة على أن الابتكار في بيئة القطاع العام أصعب منها (لأسباب تتعلق بطبيعة القطاع العام ذاته) في بيئة القطاع الخاص، وذلك أن القطاع العام يُجري عملياته التشغيلية تحت عبء أثقل من الضوابط والتقييدات. [2] وفي هذه القصة غالباً ما توصف البيئة السياسية على أنها "معادية" و"غير متقبلة" للابتكار في القطاع العام نظراً لقِصر الدورات السياسية وإلى عدم استطاعة هذه البيئة التغافل عن الضغوط السياسية.[3]  ونتيجة لذلك كله، تنزع ثقافة القطاع العام بطبيعتها إلى تجنب المخاطر. [4]  وفي نهاية هذه القصة، نجد أن أدبيات القطاع تركز على إيجاد طرق مختلفة لرفع الحواجز وتخفيف القيود للسماح بدخول الممارسات المبتكرة وإدراجها في القطاع العام.[5] 

وشأن كل قصة بشرية، هناك جزء من الحقيقة وجزء من غيرها. وإذا ما تأملنا في قصتنا هذه سنجدها أغفلت النقطة الأساسية المتمثلة في: أن ما يهم حقاً في هذا الموضوع هو الابتكار العام. من المستبعد أن يساعد التركيز على الابتكار في القطاع الحكومي الحكومة على مواكبة مستوى التعقيد المتزايد الذي ينحو إليه المجتمع، كما لن يساهم أيضاً في تقديم حلول للمشاكل المتنوعة من التغير المناخي، واتساع الفجوات بين الرواتب واللامساواة في التوظيف، أو التأثيرات المحتملة لارتفاع عدد المسنين في المجتمع.[6]  وبتأمل كافٍ ندرك أن المناقشات المتمحورة حول "الابتكار في القطاع الحكومي" تعاني من محدودية الأفق إلى درجة تجعلها تفوّت تماماً أهمية "الابتكار العام". وهكذا نَخلُص إلى أن هذه المباحثات والنقاشات والمبادرات تقلل من أهمية دور الحكومة في بناء مجتمع مبتكر، وفي اجتراح حلول إبداعية للمشاكل الناشئة الجديدة ذات العواقب والآثار المجهولة.

 

الابتكار العام

"الحكومات تبتكر": هذه نقطة البداية للمناقشات الأوسع التي تتحدث عن الابتكار العام. وبغية إعادة صياغة المحادثات حول الابتكار من وجهة نظر القطاع العام، لا بد من إدراجه ضمن سياق أشمل يحكي عن دور الدولة ومساهمة الحكومة في المجتمع. الابتكار العام هو الرسالة الرئيسية للحكومة، ونعني بهذه الرسالة، اجتراح حلول للتحديات التي يواجهها المجتمع، حيث أن هذه التحديات لا يمكن حلها دون الاستعانة بشكل من أشكال التدخل الحكومي. في هذا السياق، تعتمد قدرة الحكومات على توجيه المجتمع -من خلال عملية مستمرة من التغيير -على هذا الدور الحيوي.

يعود الفضل إلى القطاع العام في تبني وتنفيذ العديد من الابتكارات التي بدورها رسمت ملامح مجتمعاتنا الحديثة الآن. لأن المؤسسات العامة هي التي مولّت وبَنَت البنية التحتية اللازمة لنشاط المجتمع الحديث.[7]  فيما كانت الاستثمارات الحكومية هي الرافد الأساسي الذي فعّل الابتكارات التقنية الثورية التي بدورها غذّت "الاقتصاد الجديد"، والتي نشهدها حالياً وهي تُستخدم بطرق غير مسبوقة لتحفيز نمو الاقتصاد العالمي. ولطالما لعبت التدخلات الحكومية دور الوسيط باستمرار، وأعادت رسم الحدود بين المجالين العام والخاص للحياة في المجتمعات.[8] 

ولأن التعاريف مهمة لوضوح المفاهيم، يتمثل تعريفي الخاص لـ"الابتكار العام" في أنه "تلك الحلول المبتكرة التي تخدم هدفاً عمومياً يتطلب استخدام الوسائل العمومية الحكومية".[9]  ويتمثل الفارق الذي يميز بين الابتكار العام عن الابتكار المجتمعي في الصلة الوثيقة بين الإجراءات التي تتخذها الحكومة، واستخدام أجهزة الدولة،[10] من هذا المنطلق، وعكس الفكرة التي تنص على أنها ميالة لعدم المخاطرة، تعد الدولة أكبر جهة مُخاطِرة في المجتمع. تخاطر الحكومة على مستوى أكبر من أي مخاطرة قد يجريها أي قطاع أو هيئة أو كيان آخر في المجتمع، وتعمد الحكومة للتدخل في مجالات لا تستطيع قوى السوق أو قدرة المجتمع المدني الولوج إليها، ناهيك عن التدخل فيها. وهذا المنظور الأوسع نطاقاً يكشف لنا عن بعض الخصائص المميزة لموضوع الابتكار العام.

 

الخصائص المميزة للابتكار العام

يتمتع الابتكار العام بخصائص مميزة تجعله مجالاً هاماً لا بديل له، حيث ترتبط هذه الخصائص بالسلطة التي تمتع بها الدولة والشرعية التي تحظى بها الحكومة والتي تتيح لهما التدخل في الميدان العام لتغيير مسار الأحداث بالطريقة التي يحكم المجتمع أنها الأفضل بالنسبة له. كما أن هذه الخصائص من شأنها التمييز بين الابتكار العام من الابتكارات التي تُجرى في القطاعات الأخرى.

 

 

 

المنظور الشامل للتدخلات الحكومية:

خلافاً لما هو واقع في الدوائر الخاصة أو الأكاديمية أو المدنية، غالباً ما تحصل الابتكارات العامة على أوسع نطاق. تغطي هذه الابتكارات كافة التراب الوطني الذي تشمله الفترة الزمنية لعُهدة الكيان الحاكم، ويضم كل شخص تسري عليه سلطة تلك الدولة. وذلك أن القوانين الجديدة تُطبق على الجميع. في هذا السياق، تحدد البرامج والخدمات العامة الجديدة استحقاقات المواطنين المؤهلين وتنشئ حقوقاً جديدة من شأن جميع المواطنين المؤهلين لها التمتع بها. ما من شك في أن القانون أداة ضرورية للتصرف بهذه الطريقة على نطاق بهذا الاتساع. لكننا لا نجد أي عنصر أو أداة أخرى في المجتمع بإمكانها التدخل بهذه الطريقة وعلى نطاق بهذا الاتساع.

 

 

 

 

بيد أن التدخلات الحكومية الشاملة من شأنها أن تخلق تحدياتٍ معيّنة أمام الحكومة. في القطاع الخاص، تعمد غالبية الشركات إلى تجريب الأفكار المبتكرة على نطاق صغير أولاً قبل تطبيقها على نطاق واسع. وهذا ما يخفف من المخاطر التي تحف بهكذا ابتكارات، وترفع من حظوظ نجاح إطلاق خدمات أو منتجات جديدة. إلا أن الحكومات تواجه تحدياً معاكساً لهذا يتمثل في ضرورة إيجاد طرق لتجريب المبادرة على نطاقات ضيقة من أجل معرفة النتائج المحتملة لها قبل إطلاقها على المستوى الوطني. وهذا ليس بالأمر البسيط الهين كما يبدو لأول وهلة. لنكتشف مدى صعوبته، نشير إلى أن تجريب المبادرات على مناطق جغرافية معينة أو حصره أولاً في فئة محددة من المجتمع، أو ربطه بمجموعة عرقية أو مهنية معينة، من شأنه إثارة معضلات أخلاقية كثيرة، أو أن يستنفر الهيئات الحقوقية والقانونية بحجة: ما وجه العدل في استفادة بعض المواطنين من هذه المبادرة وحرمان الآخرين منها؟ (في حال كانت المبادرة مثلاً تمنح المنخرطين فيها أو الموجهة لهم مزايا وفوائد معينة، أو العكس تحرمهم منها). بهذا الشأن، تعد "المساواة في المعاملة" لجميع المواطنين أحد أهم الاعتبارات التي تضعها الحكومات على سلم أولوياتها. بل حتى أن المشاريع التجريبية، في بعض البلدان، تواجه قيوداً قانونية تحدّ من فعاليتها وتطبيقها، بل وحتى إطلاقها من الأساس. من جانب آخر، وفي بعض الحالات، يؤدي تجريب الأفكار على نطاق أصغر حجماً إلى تصرفات وسلوكيات محفوفة بالمخاطرة (تعتمد غالباً على الحدس والتخمين) وإلى خلق بيئة تنافسية لا تتسم بالإنصاف. نتيجة لذلك، تميل الحكومات إلى إطلاق المبادرات مباشرة على مستوى وطني، الأمر الذي -بالبديهة- ينطوي على أعلى مستوى من المخاطرة. هكذا نعرف أن الحكومة هي في الأصل، الجهة الأكثر جرأة للمخاطرة عندما يتعلق الأمر بإطلاق سياسات وبرامج وخدمات جديدة.

يشتمل كل تدخل حكومي على أمل ووعد بتحقيق نتائج أفضل، وينطوي في ذات الوقت على خطر وتهديد بالوقوع في حالات مجهولة الطابع أو غير مقصودة (عواقب جانبية غير متوقعة) أو -وهذا الأسوأ- عكس المرجو من التدخل أصلاً. يتمثل التحدي هنا في اكتشاف طريقة من شأنها رفع حظوظ التدخل الحكومي من النجاح وفي ذات الوقت التخفيف من خطر حدوث آثار ونتائج غير مخطط لها.

 

المعرفة المنقوصة والتأثير المجهول:

تعمد الحكومات إلى التدخل في مختلف جوانب الحياة المجتمعية وفي ذخيرتها معارف منقوصة أو غير كاملة. وصحيح أنه قد نجد جهوداً مبذولة لتشجيع عمليات اتخاذ قرارات بناء على الأدلة الواقعية، والاستعانة بمجال تحليل البيانات لاستخراج رؤى موثوقة ورصد أنماط يمكن الاعتماد عليها، وغيرها من التقنيات التي تحسن عملية اتخاذ القرارات، إلا أن الحكومات في نهاية المطاف مضطرة إلى اتخاذ القرارات وفق المعلومات والبيانات المتوفرة في متناولها ذلك الوقت.

وطبيعي ألا نتوقع من القرارات المتعلقة بالسياسات والبرامج والخدمات الجديدة أن تكون الأجوبة الحاسمة والحلول النهائية للمشاكل التي وضعت لها، لأن هذه القرارات ما هي إلا نقطة البداية في سلاسل طويلة وممتدة من الإجراءات المتداخلة والتي تهدف بمجملها إلى تغيير السلوكيات البشرية نحو اتجاه معين. من هذا المنظور، لا يفاجئنا أن نعرف أن النجاح لا يعتمد كثيراً على المعرفة التي بحوزتنا وقتَ اتخاذ القرار، بل يعتمد أيضاً على قدرة المؤسسات العامة على صياغة رؤى جديدة لما يحدث بالفعل على الصعيد العملي بغية تعديل التصميم الأولي للمبادرة أو المشروع لتحقيق النتائج المرجوة بمرور الوقت.

تتدخل الحكومات بنيّة خلق مستقبل أفضل، لكنها تفعل ذلك منطلقة من أساس معرفي غير كامل ولا مثاليّ. في معظم الحالات، تكون الآثار الكاملة المترتبة عن تدخل الحكومة مجهولة في بداية تنفيذ التدخل، وتنكشف تفاصيلها شيئاً فشيئاً على مر السنوات الطويلة. ولذلك لا بد على المؤسسات العامة أن تتحلى بقدرة ابتكارية قوية بإمكانها رصد النتائج على مدى فترات زمنية طويلة، وذلك بغية تعديل وموائمة التدخل الحكومي وفق تغير الظروف واكتساب معارف جديدة حول القضية. من هنا ندرك أن التدخلات الحكومية تمثل تجارب قَيْد الإنجاز.

 

القانون والسياسة كعوامل مُمَكِّنة:

لا يحدث الابتكار العام رغماً عن القانون والسياسة، إنما يحدث بتمكينٍ منهما. وذلك أن التدخلات الحكومية (سواء أكانت مبادرات أو مشاريع أو قوانين) تستمد شرعيتها من مزيج من المبادئ الديمقراطية والقيادة السياسية ودور القانون. من هنا تمتلك الحكومة الشرعية للتدخل في مجريات الأمور نيابة عن المجتمع.

أما الابتكار العام فيحدث في نقطة تقاطع خطين: يتمثل أولها في الاعتماد على القانون، الأمر الذي يعزز من القدرة على التوقع المسبق للنتائج، والخط الآخر يتمثل في التجريب، الذي من شأنه الكشف عن طرق جديدة ومنهجيات أفضل لتحقيق النتائج ذات القيمة للمجتمع. وها هنا تبرز صعوبة ذات طبيعة خاصة أمام الحكومات تتمثل في تحقيق التوازن بين الحاجة إلى استمرارية المكتسبات السابقة وضمان الاستقرار، والحاجة إلى التغيير لمواجهة التحديات المستقبلية. لأنه لا يجب أن نغفل عن حقيقة أن التدخلات الحكومية البارزة قد تكون أيضاً تدخلات مسببة لاضطراب في الوضع القائم. يعد الابتكار العام عملية من "التفكيك البنّاء"، لا بد أن تُصمم بعناية بالغة من أجل اكتساب الدعم الشعبي اللازم لها.

باختصار، من شأن إعادة صياغة النقاشات والمباحثات حول قضية الابتكار العام فتح الأبواب على آفاق أوسع نطاقاً: لأن الابتكار العام يسلط الضوء على أهمية التدخلات الحكومية في التصدي للمشاكل التي لا يمكن حلها وفي تحقيق نتائج ما كانت لتُحقق، دون الاستناد إلى الأذرعة المتعددة للحكومة.

 

 

 

 

الابتكار العام من خلال التدخل الحكومي

إن كل قرار أو إجراء تتخذه الحكومة مُصمم عن قصد لتحقيق تحول في بعض جوانب المجتمع. إذ تهدف التدخلات الحكومية إلى تغيير سلوكيات معينة أو تحويل بعض التفاعلات ما بين الميادين العامة (الحكومية) والخاصة (الأفراد) والمدنية (المجتمع). في بعض الأحيان، تُتخذ تلك الإجراءات كاستجابة لبعض التحديات الملحّة، وفي حالات أخرى، تكون الإجراءات تدابير احترازية (استباقية) ترمي إلى تأمين مستقبل أفضل للمجتمع. في كلتا الحالتين، يمكننا ملاحظة المدى الشاسع الذي يمكن للتدخلات الحكومية الوصول إليه، والذي يتجاوز أحياناً جغرافية البلاد التي أجرت هذا التغيير.

وفي الجوهر، يعتبر الابتكار العام والتدخلات الحكومية مفهومان مترابطان. تتدخل الحكومة في الوضع الحالي لخلق واقع جديد يختلف في بعض جوانبه عن الوضع الذي كان موجوداً فيما سبق. وهذا ما يعد بذاته عملية للتغيير والابتكار. في هذا السياق، يذكرنا ياسبر كريستيانسن في كتابه "لاواقعيات الإدارة العامة"، بأن الابتكارات "تدخل" الميدان العام من خلال التدخل الحكومي، ومن خلاله أيضاً "تنتشر بين" مختلف قطاعات وشرائح المجتمع.[11] 

ومن هنا تتمثل رسالة المؤسسات العامة في تشكيل البيئة الحياتية وتوجيه المجتمع من خلال إجراء عملية تغيير ترمي لتحقيق النتائج التي يرجوها الشعب. لكن مثل هذه التدخلات قد تتطلب دعماً قانونياً يساندها وتتأسس عليه، أو تتطلب استخدام القدرة الإنفاقية التي تتمتع بها الدولة. بهذا الصدد، يمكن استخدام الوسائل التي تملكها الدولة في توجيه السلوكيات الجماعية، وتشجيع التعاون أو القضاء على بعض التصرفات والسلوكيات الضارة بالمجتمع عن طريق فرض تدابير قسرية. ويعتبر الابتكار العام بحد ذاته هدفاً كما أنه عملية إنتاج الحلول الجماهيرية العامة التي غالباً ما تتجاوز ما يمكن للحكومة بمفردها أن تنجزه، لكن في ذات الوقت لا يمكن تحقيقها دون الاستعانة بها.

ستحقق بعض هذه المبادرات والحلول نتائجها المرجوة؛ فيما سيُبلي بعضها الآخر حسناً لفترة معقولة من الزمن إلا أنها تتطلب تعديلات دورية، أما البعض الآخر فينتهي به المطاف إلى الفشل. في تلك الحالات الأخيرة، قد يعود السبب في الفشل إلى الحكومة. وتتراوح أسباب عدم إحراز أي تقدم في الإنجاز من سوء فهم المشكلة المحددة، إلى عدم اختيار الأجهزة الحكومية المناسبة أو الكافية لإنجاز المبادرة، أو رداءة تصميم التدخل الحكومي بالأساس. أما في بعض الحالات الأخرى، فيعود السبب في عدم إحراز أي تقدم إلى انعدام التناسق بين الإجراءات الحكومية والخاصة والمدنية. بهذا الصدد، يستفيد الابتكار من النظام المحتوي له عندما تلعب الدولة دوراً رئيسياً في بناء الصِلات الديناميكية الحاسمة بين مختلف المؤسسات وعبر شتى القطاعات.

إن إعادة صياغة المحادثات والمناقشات والمباحثات بشأن الابتكار يعني التركيز على النتائج الاجتماعية واستكشاف الطريقة التي يمكن بها أن نستخدم سلطة الدولة بالشكل الأمثل واتخاذها رافعة للارتقاء بالجهد الجماعي الذي يشجع على تقاسم المسؤوليات والمكافآت والعوائد لتحقيق النتائج العامة المرجوة. وفي خضم تلك المناقشات ستبزغ مواضيع هامة أخرى مثل قدرة الدولة على خلق نظام تكافلي فعّال يستفيد منه كل من المجتمع والقطاع الخاص على حد سواء. ولن تقتصر المواضيع المثارة على ذلك فحسب، بل ستثير الأسئلة حول قدرة الحكومة على التدخل وتحمل مستوى من المخاطر يتجاوز طاقة تحمل السوق، من أجل تحقيق المصلحة العامة، أو موضوع الطريقة المثلى التي ينبغي على الحكومة انتهاجها للاستفادة من العوامل الاجتماعية لبناء اقتصاد إبداعي ومجتمع مبتكر. [12]

إن هذا المفهوم من الابتكار نعثر عليه في مبادرة "التشكيل الجديد" التي تعيد صياغة مفهوم الابتكار العام ضمن السياق الأوسع لدور الدولة. وحريّ بنا أن نشير إلى أن مهمة إعادة النظر في دور الحكومة (والدولة) في الابتكار العام لا تقتصر على تلك المواضيع أو الأسئلة التي ذكرناها أعلاه فحسب. فالأسئلة المتمحورة حول هذا الموضوع لا تنتهي، والتفكير في دور الحكومة في الابتكار العام يعد فرصة لإعادة صياغة أهدافها العامة في سياق دائم التغير، كما يعد نافذة يمكن عبرها تفحص ودراسة منظومة العلاقات بين الميادين العامة والخاصة والمدنية التي تنبثق من رحمها النتائج المجتمعية المطلوبة.

 

جوسلين بورغون هي الرئيس المؤسس لمؤسسة الحوكمة العامة الدولية (PGI)، ومنصب الرئيس الفخري للكلية الكندية للخدمة المدنية العامة ومديرة مشروع "مبادرة التشكيل الجديد" (New Synthesis Initiative). اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.

 

المصادر:

تم اقتباس هذه المقالة من فصل كامل تضمنه الجزء الثاني من كتاب "مبادرة التشكيل الجديد للإدارة العامة"، الذي نُشر شهر سبتمبر 2017 تحت العنوان التالي الدليل الإرشادي للتشكيل الجديد للإدارة العامة (دار نشر دانسك بسيكولوجيسك فورلاغ، 2017).

[1] تعتبر "مبادرة التشكيل الجديد" حركة تعاون دولية تهدف إلى منح العاملين في قطاع الخدمات العامة إطاراً مفاهيمياً جديداً للإدارة العامة من شأنه توجيه أفعالهم وإجراءاتهم وقراراتهم نحو الأفضل واجتراح حلول تتناسب والعصر الحالي. وتعد هذه المبادرة خلاصة سنوات طوال من الدراسة والتطبيق العملي، والتوصيات التي تضمها متبعة ومستخدمة من قبل أكثر من 1000 موظف في الخدمة المدنية في العديد من البلدان منها: أستراليا، كندا، الدنمارك، فنلندا، ماليزيا، سنغافورة، وبعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. يمكنك الاطلاع على المزيد من المعلومات حول المبادرة بزيارة الموقع التالي: http://www.pgionline.com
[2] للاطلاع على أمثلة على هذا، راجع إيفا سورنسن وجيكوب تورفينغ، "تعزيز الابتكار التعاوني في القطاع العام"، دورية الإدارة والمجتمع (Administration & Society) 43 (2011)؛ 842–68، وب. بييرسون، "تعظيم العوائد، اختيار المسار ودراسة السياسات"، أمريكان بوليتكال ساينس ريفيو94 (2000): 251-67.
[3]كريستوفر بوليت، الوقت، السياسة، الإدارة: الإدارة وفق الماضي (أكسفورد: مطبعة جامعة أكسفورد، 2008).[4]ستيفن كيلمان، "مدرسة كينيدي للأبحاث المتعلقة بالابتكار في الحكومة"، في كتاب الابتكار في الحكومة: الأبحاث والاعتراف والتكرار، نشر Sandford Borins (Washington, D.C.: Brookings Institute Press, 2008), 29 & 37; OECD، الابتكار في القطاع العام: من اجتراح الأفكار إلى تحقيق التأثير (Paris: OECD, 2014),19; Pierson, "Increasing Returns", 251–67; Luc Bernier and Taïeb Hafsi، "الطبيعة المتغيرة لريادة الأعمال الحكومية"، مجلة الإدارة العامة (Public Administration Review 67(2007): 488-503.

[5] Jocelyne Bourgon، Public Innovation and Public Purpose (Ottawa: Public Governance International، 2015)، 4.
[6] Council for Science and Technology,Improving Innovation in the Water Industry: 21st Century Challenges andOpportunities (London: Council for Science and Technology, 2009); Christian Bason, "Design-Led Innovation inGovernment," Stanford Social Innovation Review 10th Anniversary Essays, Spring (2013): 15–7.
[7] Bourgon,Public Innovation and Public Purpose, 5–6.
[8] تيموثي ميتشل، "حدود الدولة: ما وراء النهج الحكومي ومنتقديه" The American Political Science Review 85 (1991): 77-96.
[9] Bourgon,Public Innovation and Public Purpose, 6.
[10] للاطلاع على أبحاث بخصوص الابتكار المجتمعي، طالع جيف مولغان، الابتكار في القطاع العام: How Can Public Organizations Better Create, Improve and Adapt (UK: Nesta, 2014), and Directorate-Generalfor Regional and Urban Policy, European Commission,Guide to Social Innovation (Brussels: EuropeanCommission, 2013).
[11] ياسبر كريستيانسن، لاواقعيات الإدارة العامة (Denmark: Mindlab, 2013), 19, 34 & 58–71.
[12] للمزيد من الاطلاع، راجع عمل ويليام لازونيك وماريانا مازتزوكاتو، "نقطة الوصل بين الخطر والنتيجة المرجوة في علاقة الابتكار واللامساواة" Industrial and Corporate Change 22 (2013): 1096–7; and Mariana Mazzucato,TheEntrepreneurial State: تفنيد أسطورة صراع القطاع العام ضد القطاع الخاصLondon: Anthem Press, 2014).

التعليقات

التعليقات 0

انضم إلى المحادثة