تجتاح رياح التغيير المدن في جميع أنحاء العالم. واستجابةً لهذه التغيّرات المتتالية، يركّز رؤساء بلديات المدن وغيرهم من واضعي السياسات المدنية والعمرانية على الاستثمار في الابتكارات الهادفة لتحسين تجربة ومعيشة قاطني المدن ومن يعملون فيها. بعبارة أخرى، تَنصبّ هذه الجهود على عملية تحويل مدنهم إلى مدن "أذكى". التوجه إلى تحويل المدن إلى مدن ذكية كطريقة للتجاوب مع التغيير تدفع العديد من قادة المدن إلى التطلع إلى " المدن الأكثر ذكاءً" في العالم لاستلهام الحلول والممارسات الفضلى منها. ويستند العديد من هذه الحلول إلى "تقنيات المدن الذكية" التي تستقطب قدراً هائلاً من الاستثمارات. فوفقاً لشركة الاستشارات "أي دي سي" بلغ حجم الإنفاق على تكنولوجيا المدن الذكية ما قدره 80 مليار دولار في 2016، ومن المنتظر أن يرتفع الرقم إلى 135 مليار دولار بحول 2021. لكن يكمن الجانب المعتم من هذه القصة في أن العديد من هذه الاستثمارات تبوء بالفشل في واقع الأمر. والسؤال هنا لماذا تتوّج العديد من الاستثمارات والحلول في بعض المدن الذكية بالنجاح، بينما تواجه ذات الحلول الفشل في غيرها؟ 

المؤسف في الأمر هو أن العديد من قادة المدن باتوا مدركين أن نَسْخ الابتكارات بشكلٍ مباشرٍ من مدينة ما ونقله إلى مدينة أخرى لا يضمن تحقيق القيمة المرجوة لعامة الناس. كما أن هؤلاء القادة يجدون أنفسهم تحت ضغطٍ كبيرٍ لتحويل مدنهم إلى مدن ذكية في مدة زمنية قصيرة، ما يفرض عليهم ظروفاً قد تحدّ من قدرتهم على التعامل مع الطبيعة المتفردة لكل مدينة. وتمنعهم من إدراك أن ما ينجح في إنتاج قيمة ملموسةً في مكان ما، قد لا يكون مجدياً في مدينة أخرى. وبعبارة أخرى، فهم "السياق" هو ما يحدد نجاح أو فشل المدن الذكية.

ما أهمية السِياق في تطوير المدن الذكية؟ يعرّف القاموس المحيط كلمة "سِياق" بالعربية أنها " تعاقب سلسلة من الظَّاهرات في وحدة ونظام.. أو ظروف يقع فيها الحدث". كذلك، يعرّف معجم "ميريام ويبستر" مقابل كلمة "سياق" باللغة الإنكليزية، على أنها "الظروف المترابطة التي تحكم وجود أو حصول أمر ما". وبالتالي فإن فهم سياق مدينة ما، يعني الإمعان في التحديات التي تواجهها تلك المدينة، ودراسة قُدراتها، وسِماتها، وإنجازاتها. و يعني ذلك الاستثمار تحديداً في القيام بإجراءاتٍ تبحث في طبيعة المشاكل التي تتعرض لها المدينة، والموارد التي تلعب دوراً أساسياً في إيجاد حلٍ لتلك المشاكل، وفي فهم وجهة نظر أصحاب المصلحة حول نوعية الحلول المطلوبة. كما أنه يعني أيضاً معرفة الأسباب التي تؤدي إلى نجاح استثمار ما في مدينة ذكية وفشله في غيرها، وبناءً على ذلك، تشكيل فهمٍ وتحليلٍ مشترك حول كيفية تفاعل السياق مع الابتكارات التي تم تطبيقها في أوضاعٍ مشابهة، ومن ثم استخدام هذا الفهم والتحليل كمعطيات تدخل في اتخاذ القرار.

ومن الشائع أن يقتصر صناع القرار على بناء العديد من الاستثمارات على فهمٍ محدودٍ لأسباب نجاح ابتكارٍ ما في مدينةٍ أخرى، وتحديد ما يجب أن يحصل في المقابل في مدينتهم كي يتمكنوا من إنتاج قيمة مشابهةٍ من ذلك الابتكار. فالمدن التي تُتّخذ فيها قراراتٌ تستند إلى فهمٍ دقيقٍ لسياقها، فإنها ستكون قادرةٌ على تحقيق قيمةٍ حقيقة. أما في مدنٍ أخرى، فإن إهمال السياق الخاص بها، يحدّ فعلياً من إمكانية نجاح الاستثمار في تحويلها إلى مدنٍ ذكية.

السؤالان المطروحان أمامنا هما: لماذا تُتّخذ القرارات الهامة بخصوص مستقبل مدن العالم دون الإمعان في السياق الخاص بها؟ وما الذي بوسع قادة مدن المستقبل فعله بطريقة مختلفة لضمان أن تحقق الاستثمارات المستقبلية قيمةً حقيقيةً لمدنهم؟

وفقاً للمؤسسة غير الربحية "ليفبل سيتيز" في الولايات المتحدة [1]، توجد خمسة جوانب أساسية تميّز المدن الناجحة والصالحة للعيش: "وجود أحياء قوية ومستكمَلة، وتَوَفُّر إمكانية وصول سهلة وتنقل مستدام، وتواجد اقتصاد محلي متنوع ومرن، ووجود مساحاتٍ عامةٍ نشطة، وإتاحة كل ذلك بتكاليفٍ ميسَّرة". ويعمل قادة المدن في جميع أنحاء العالم على تحديد وسد الفجوات التي تحد من صلاحية مدنهم للعيش.. لكن سدّ هذه الفجوات يحتاج إلى مجموعة مترابطة من السياسات والإدارة وابتكارات التكنولوجيا. ومدى نجاح قادة المدن في التجاوب مع الضغوط المتغيرة المفروضة على صلاحية مدنهم للعيش، يعتمد إلى حدٍ كبيرٍ على مدى قدرتهم على، أو حتى تقبلهم لمبدأ الاستثمار في تكوين فهمٍ للسياق المحدَّد لمدينتهم. لكن التحدي يكمن في أن تكوين فهمٍ دقيقٍ وتفصيلي للسياق لا يمكن أن يحصل إلا عبر فكفكة الطرق المعقدة التي يتفاعل بها سياق مدينة ما مع المشاكل التي تواجهها، والابتكارات المنتظرة لحل هذه المشاكل، والقُدرات المطلوبة لتحقيق النجاح. وغالباً ما يوجد تعارضٌ بين إمكانية إيجاد الوقت الكافي لتشكيل هذا الفهم، وبين الضغط الواقع على قادة المدينة لاتخاذ قرارات حاسمة بسرعة. كيف إذاً بوسع صنّاع السياسات تغيير هذا الواقع؟ 

المدن الآخذة بالنمو والمدن الآخذة بالتقلص – كيف يغيّر السياق المعادلة

تؤثر ظاهرتا توسّع المدن وتقلصها على حد سواء على صلاحية مدن العالم للعيش. ومع ذلك فإن معظم ما كُتب عن التغيّرات في حجم مدن العالم وأثر هذه التغيرات على صلاحية المدن للعيش تتناول جانب النمو فقط، مع إهمال التقلّص. ومعظم المقالات التي تتناول التوجه العالمي في التمدن تقدم تنبؤاً أو أكثر مدعوماً بأدلة كافية، يشير إلى أنه بحلول العام 2050 سيصبح ثلاثة أرباع سكان العالم الآخذين بالنمو السريع من قاطني المدن، بعد أن كانت النسبة 25% في 2010، الأمر الذي يقلب بشكل كامل توزيع السكان بين المدينة والريف. ويتّفق الباحثون والممارسون على أن هذا النمو السريع يزيد الضغوط على البنى التحتية المادية والاجتماعية للمدن، ويشكل عبئاً على الخدمات الأساسية التي تحدد صلاحية العيش في المدن. وثمة إدراك أن المشاكل الاجتماعية في مثل هذه المدن تزداد تعقيداً وتشابكاً مما يستدعي تعضيد أواصر التعاون بين عدة جهات في المدينة، وعلى عدة مستويات حكومية مختلفة، فضلاً عن دور المنظمات غير الربحية، وقطاع الأعمال، والمجتمع عموماً. وقد أصبحت هذه الفجوات في صلاحية العيش والناجمة عن النمو محطّ تركيز محافظي المد أو رؤساء البلديات وصناع السياسات الحضرية في جميع أنحاء العالم، كما أنها تعتبر في صميم الأبحاث المتعلقة بالمدن الذكية والتمدن. واستجابةً لذلك، تهدف الحلول المتعلقة بالمدن الذكية والتي تطرحها مختلف القطاعات إلى التخفيف تحديداً من عبء النمو عن كاهل مدن العالم.

وهنا من المهم الإشارة إلى وجود اتجاهٍ آخر في النمو يخالف ذلك المعني بالتوسع المدني والمدن الآخذة بالنمو. فظاهرة تقلّص المدن تُحدِث تأثيراً في سياق العديد من مدن العالم، وتُسهم في تراجع مستوى صلاحية العيش في المدن بطرق تختلف عن تلك الناتجة عن نمو المدن. فعلى الرغم من أن الناس ينتقلون عادةً إلى المدن بغرض تحسين جودة حياتهم، إلا أن عوامل عدة تؤثر في مسار المدن بشكل يسبب تقلصها في الحجم. وثمة ثلاثة اتجاهات رئيسة تؤدي إلى تقلص المدن وهي: تراجع معدلات الخصوبة، كما هو الوضع في اليابان، والتراجع في التصنيع والتنقيب لاستخراج المعادن، كما هو حاصل في الولايات المتحدة الأميركية، واستنزاف الموارد والتغير التكنولوجي، كما يحدث في الصين [2]. بينما تعاني المدن النامية من الضغوط لتحديث وتوسيع بناها التحتية، تواجه المدن الآخذة بالانكماش تحدياتٍ عدة لتقليص حجم بنيتها التحتية وفي العثور على "نماذج مالية مستدامة للتشغيل والصيانة". فالمدن المماثلة لمدينة شيفلد، في ولاية أيوا في الولايات المتحدة الأميركية، وأوسترافا في جمهورية التشيك، تركّز بصورة متزايدة على كيفية "تقليص نفسها بطريقة ذكية" [3]. ويجب على صنّاع السياسات أن يدركوا الاختلاف ما بين الاستراتيجيات المناسبة لتقليص مدنهم وتلك المناسبة لتنميتها.

 

هل بوسع المدن "أن تتقلص بطريقة ذكية" في تعاملها مع الاضمحلال الحضري؟ 

في الولايات المتحدة الأميركية، كانت مدينة سكنيكتادي في ولاية نيويورك تشتهر خلال القرنين التاسع عشر والعشرين بوصفها المدينة التي "تنير العالم". أما اليوم، فإن سكنيكتادي، المدينة الذكية الحاصلة على الجوائز والتي تضم مقر شركة "جنرال إلكتريك"، تعاني من المشاكل التي تعصف بأي مدينة آخذة بالتقلص، ولاسيما، تهالك أجزاء منها [4]. ففي المتوسط، يمكن لعقار واحد متهالك أن يكلف البلدية عشرات الآلاف كل سنة على شكل تكاليف مباشرة وغير مباشرة. وتشمل التكاليف المباشرة تنفيذ القوانين المتعلقة بمخالفات البناء والهندسة وصيانة العقارات. أما التكاليف غير المباشرة فتشمل الضرائب غير المحصلة، وتراجع قيمة العقارات المتاخمة، والأثر على خدمات المدينة مثل كالشرطة والإطفاء. ويتناول عدد متزايد من الدراسات التي تبحث في التهالك أو الاضمحلال أو التآكل الحضري في المدن، أثر هذا التهالك على المسائل الاجتماعية والاقتصادية الأخرى، مثل الصحة العامة والفرص الاقتصادية. ويمتلك محافظ مدينة سكنيكتادي، غاري مكارثي، الرئيس السابق لمؤتمر رؤساء البلديات في ولاية نيويورك، رؤيةً لمحاربة تهالك المناطق الحضرية في مدينته الآخذة بالتقلص. وتستند رؤيته إلى أسس متينة وقد أثبتت قدرتها على تحقيق القيمة في مدن أخرى. لكن المؤسف في الأمر هو أن جهوده تواجه عقبات عدة كانحسار الميزانية، والأنظمة القديمة الموروثة، وغياب وجود قائد لنظم تكنولوجيا المعلومات يمتلك نظرة استراتيجية، وعدم وجود استراتيجية أو قوى عاملة مسؤولة عن إدارة البيانات على مستوى المدينة. وقد أسهم التزامه بإغلاق الفجوة في صلاحية العيش في المدينة إلى إبرام مجموعة من الشراكات المبتكرة بين القطاعين العام والخاص وإلى تمويل الأبحاث الهادفة إلى تكوين فهمٍ دقيقٍ حول سياق المدينة، ليتمكن من اتخاذ قرارات استثمارية ملائمة لها. ويدرك مكارثي ضرورة الاستيعاب الكامل لسياق المدينة وقدرتها، وعدم الاكتفاء بالاستثمار في الحلول التقنية لجعل المدينة أذكى فحسب، وإنما توسيع دائرة الاستثمار لتشمل السياسات والقدرات الإدارية والتي تعزز مراكز القوى في سكنيكتادي، مما يأخذ بالحسبان أيضاً السياق المتغير للمدينة.

 

تتطلع المدن في أنحاء العالم، سواء كانت مدناً آخذة بالنمو أم بالتقلص، كبيرة كانت أم صغيرة، إلى تبنّي تكنولوجيات كأجهزة الاستشعار وشبكات إنترنت الأشياء، كطريقة للحصول على البيانات المتعلقة ببرامج المدينة وخدماتها. وتتمثل الفكرة الأساسية في أن البيانات الجديدة، التي تجمعها أجهزة الاستشعار هذه، ويُعمَل على مشاركتها عبر الشبكات، لتُستعمل في عمليات التحليل، سوف تساعد في دعم القرارات الخاصة بالسياسات في تلك المدينة. فعلى سبيل المثال، تُستعمل أجهزة الاستشعار التي تجمع بيانات استهلاك المياه في المدن للمساعدة في اتخاذ القرارات الخاصة بعمليات إدارة المياه الروتينية، إضافة إلى الاعتماد عليها في صياغة المزيد من السياسات. وما يجعل هذا الأمر ممكناً في العديد من الحالات، هو أن هذه المدن تتمتع بالقدرة على جمع كميات كبيرة من البيانات وإدارتها، عدا عن كونها تتمتع بقدراتٍ تسمح لها بإدارة البيانات المعقدة. وعلاوةً على ما سبق، تملك تلك المدن تراثاً قائماً في تدعيم عملية صنع القرار بالأدلة، أو على الأقل تبنّت عملية صنع قرار ممنهجة فيما يتعلق بإدارة الموارد المائية مثلاً، ما يمكّنها على الاستعانة بطرق تحليلٍ جديدة في إطار عمليات اتخاذ القرار هذه. أما في مدنٍ أخرى، وعلى الرغم من إمكانية نشر أجهزة الاستشعار هذه من الناحية التقنية، إلا أن القدرة على تنظيم البيانات الناتجة عنها وإدارتها وتجهيزها وإتاحتها للاستخدام في أنظمة معقدة لتحليل البيانات دعماً لعملية اتخاذ القرار تكون في أحسن الأحوال قدرةً محدودة، وفي حالاتٍ عديدة غير موجودة أصلاً. وبالنسبة للعديد من المدن الآخذة بالتقلص، ولاسيما الصغيرة منها، فقد توصّل القائمون عليها على سبيل المثال إلى أنه على الرغم من أنه من الممكن الاستجابة لتقلص القوى العاملة، بالاستفادة من تقنيات تعلّم الآلة في تعزيز عملية صنع القرار بشكلٍ مؤتمت، إلا أن هذه المدن لا تمتلك الحجم المطلوب من البيانات، أو القدرات التي تسمح لها بإدارة البيانات، أو تطوير التكنولوجيات الضرورية. ولكن لسوء الحظ أدركت بعض المدن هذا الأمر بعد أن تورّطت باستثمارات هائلة. وفي تلك الحالات، يتم إنفاق الأموال، لكن القيمة من ذلك الإنفاق تكون محدودة.

 

من غير الواضح كيف سيستمر صنّاع السياسات في المدن الآخذة بالتقلص مثل سكنيكتادي وشيفلد وأوسترافا في جعل مدنهم صالحة للعيش. لكن من الواضح أن على رؤساء البلديات وصنّاع السياسات الحضرية أن يشكلوا فهماً أكثر دقةً للقضايا التي تواجه المدن الآخذة بالنمو، وتلك الآخذة بالتقلص على حد سواء. وأن يدركوا أهمية السياق والظروف المحيطة التي تؤثر في نجاح المدن الذكية. كما يجب عليهم الاستناد إلى هذا الفهم الجديد للتحرك بطريقة استباقية، واتخاذ القرارات التي تبقي مدنهم على قيد الحياة وتجعلها مكاناً صالحاً للعيش.

 

ما بعد "الأنماط الشاملة": من فهم السياق إلى تحقيق الأثر

عَمِلَ الباحثون والممارسون من طيفٍ واسعٍ من الفروع العلمية والمهن، على فهم العناصر التي تجعل المدينة "ذكية" بالفعل. وقد طوّروا نماذج ووضعوا نظرياتٍ ومفاهيم نظرية وأطراً وأنظمة تصنيف واستراتيجيات وحلولاً وقوائم للتدقيق. وقد ركزت التوصيفات المبكرة للمدينة الذكية على الجوانب التقنية، مثل الأبنية الذكية، والطاقة، والاتصال بالإنترنت. وكانت عندها المدن الأذكى هي تلك التي استعملت هذه التكنولوجيات لتوفير المال وتأمين بنية تحتية عالية الجودة. واعتمدت هذه الجهود عموماً، سواء المبنية منها على البحث العلمي أو الممارسة، على ما يدعوه آلبيرت ماير (الباحث البارز في مجال المدن الذكية من هولندا) بمصطلح "الأنماط الشاملة". فقد نجحت مدينة تلو الأخرى في تبني استراتيجيات عالية التقنية تركّز على حل المشاكل ذات الطابع التقني البحت. ولكن مع مرور الوقت، وبعد أن تجاوزت استراتيجيات المدن الذكية الابتكارات التقنية الصرفة وتحولت لتصبح ذات طابع اجتماعي-تقني مزدوج، كالعمل على تقديم الخدمات الاجتماعية، اتضحت الأهمية الكبيرة للسياق في تلك الممارسات. ولكن على الرغم من  أن الباحثين والممارسين الرائدين في هذا المجال يدعون للمزيد من التركيز على السياق، إلا أنهم يقِرّون أنهم لا يملكون المعرفة الكافية حول كيفية تحديد أثر السياق على النتائج عملياً. فمعرفتنا للعلاقة التي تربط بين السياق والمقاربات التي ترمي إلى جعل المدن أذكى ما تزال "غير متطورة" [5]. وهي تفتقر إلى المستوى المطلوب الذي يسمح لها أن تشكل مرشداً لصناع السياسات يستند إلى الفهم الدقيق لمدى الترابط بين سياق مدينتهم وتحديّات التغيير.

لذلك نجد أنفسنا اليوم في وضعٍ نعلم فيه أن فهمنا للسياق مهم عند اتخاذ قرارٍ للاستثمار في مدينة ذكية، لكننا ندرك أيضاً أننا بحاجة إلى أن نعرف المزيد عن سبب أهميته، والكيفية التي تتجلى بها تلك الأهمية. ولضمان جدوى القرارات المكلفة التي تتخذها المدن، يجب علينا إدراك دور السياق في توجيه تلك القرارات. ومع مرور الوقت، طوّر الباحثون والممارسون فهمهم لمعنى المدينة الذكية والتوصيفات اللازمة لتوضع مدينة ما في خانة المدن الذكية. وتوجد اليوم العديد من أطر المدن الذكية، بشكل متعدد الأبعاد ومتكامل. تعكس تلك الأطر الابتكارات التقنية والاجتماعية والتنظيمية التي حصلت خلال السنوات الماضية. كما استفادت هذه الأطر من خضوعها للاختبار وإعادة النظر الدائمين ضمن مجموعة واسعة من السياقات. وثمة إطار بارز، على سبيل المثال، كان قد اقترحه جيل غارسيا وآخرون [6] يمنح نظرةً شاملةً عن مكونات المدينة الذكية وعناصرها. ومع مرور الوقت، ومن خلال الدراسة المستمرة لهذا الإطار في سياقات مختلفة، وعلى يد فرق بحثية متعددة، تم توسيع الإطار ليعكس الآراء المتغيرة تجاه تركيبة المدينة الذكية. وعلى سبيل المثال نجد أن أحد أبعاد هذا الإطار الأصيلة المتمثل في "البيئة" قد عُرّف في بادئ الأمر بوصفه قدرة حكومة المدينة على إدارة الأنظمة والإجراءات المتعلقة بالبيئة ورصدها. أما اليوم، ونتيجة للتغير في الآراء والأبحاث الجديدة، فإن هذا الإطار بات يشمل فهم إلى أي مدى تُعتبرُ المدينة صديقةً للبيئة. ويشمل هذا الإطار وغيره الآن رأس المال البشري، والإبداع، واقتصاد المعرفة، كعناصر للمدن الذكية بين جملة أخرى من العناصر. وفي الآونة الأخيرة، انصب اهتمام العالم على الحوكمة والاستدامة. وتُظهِر هذه الجهود أن المدينة الذكية كما نفهمها تعكس مجموعة من الابتكارات الاجتماعية والمؤسسية والتنظيمية، فضلاً عن الابتكارات التقنية أيضاً.

بناء المدن الذكية بطرق تناسب السياق الخاص بها – المبادئ التوجيهية 

يجب على رؤساء البلديات وصناع السياسات الحضرية تكوين فهمٍ لسياق مدنهم والمدن التي يتطلعون للتعلم من تجاربها الفضلى. فإذا ما عثروا على استراتيجية في مدينة أخرى يؤمنون أنها ستجعل مدينتهم أذكى، يجب عليهم أن يطرحوا أسئلة صعبة عن هذه المدن؛ ويجب عليهم فهم الظروف المترابطة التي أدت إلى نجاحها. وبنفس الطريقة، عليهم أن ينظروا بإمعان إلى السياسات وأسلوب الإدارة والقدرات التكنولوجية التي أسهمت في نجاح الاستراتيجية، ومن ثم يجب أن يُخضِعوا قدرات مدينتهم للمراجعة الوثيقة أيضاً. ويتوجب الإجابة على الأسئلة المعقدة بخصوص ما إذا كانت لديهم الظروف الضرورية التي تجعل مدينتهم مكاناً أكثر صلاحية للعيش. يجب عليهم أن يحددوا ما إذا كانوا يمتلكون الموارد التي تسمح لهم بسد الفجوات في مدنهم، أم ما إذا كانوا سيكيّفون الابتكار ليناسب سياقهم، أم ما إذا كانوا مضطرين إلى الاستمرار في البحث عن أفكار جديدة.

 

إذا ما أراد رؤساء البلديات وصناع السياسات الحضرية تحويل مدن العالم إلى مدن ذكية جاهزة لمواجهة الوقائع المتغيرة الناجمة عن زيادة أعداد السكان وتناقصها، يجب عليهم اتباع ثلاث خطوات:

 

  1. الإقرار بأهمية السياق، وإدراك أن ما نجح في أماكن أخرى قد لا ينجح لديهم.
  2. بناء القدرات التي تمكنهم من فهم السياق، من خلال تقويم المعارف والمهارات المتاحة، ومن ثم بناء القدرات حيث تقتضي الحاجة ذلك.
  3. لاستفادة من ذلك الفهم لتقديم الاستثمارات التي تناسب السياق المحدد وتسهم في تحقيق القيمة ضمنه.

 

بعبارة أخرى، ينبغي عليهم أن يركزوا على احتياجات مدنهم والقدرات الفريدة التي تتمتع بها. كما أن عملية التحول إلى مدينة ذكية يجب أن تبدأ بطرح أسئلة حول القوى العاملة الحكومية الحالية. فهل القوى العاملة آخذة بالتقلص أم أنها بحاجة إلى أن تنمو؟ هل تمتلك القوى العاملة المعارف والمهارات الضرورية لتكييف الأفكار المبتكرة التي نجحت في أماكن أخرى؟ الغاية هنا ليست أن نتجنّب الابتكار، وإنما أن نرفع الجاهزية للابتكار بنجاح من خلال تكوين فهم للفجوات الموجودة التي تحد من صلاحية العيش في المدينة، ومصدر هذه الفجوات، وكيف يمكن لسياق مدينة ما أن يتفاعل مع الاستراتيجيات المصممة لسد هذه الفجوات.

يجب على صنّاع السياسات أن ينظروا داخلياً ليحددوا المشاكل الأهم ويتخذوا القرارات ذات الصلة التي تناسب السياق المحلي. وإذا ما أراد صناع السياسات الحضرية جعل مدينة ما أذكى، وأرادوا تحقيق القيمة لمن يعيش ويعمل فيها، فيجب عليهم أن يفهموا العلاقات القائمة بين سياق المدينة، وخصائص مشاكلها، وخصائص الابتكارات التي تحمل حلولاً محتملة لهذه المشاكل. ويجب عليهم أن يستعملوا هذا الفهم كأساس لاتخاذ القرارات المتعلقة بالاستثمار في المدينة الذكية.

ولكي يستفيد صناع السياسات الحضرية من فهمهم الدقيق للسياق ولكي يضعوه في صلب قراراتهم المتعلقة بالاستثمار في المدينة الذكية، ينبغي عليهم ما يلي:

 

  1. البحث على مستوى العالم عن أمثلة ملهمة، ولكن في المقابل يجب عليهم النظر إلى السياق المحلي لكي يحددوا النقاط ذات الأهمية القصوى لدى قاطني مدينتهم، وإن كانت هذه الأمثلة الملهمة تلبيها.
  2. البحث على مستوى العالم عن أمثلة قابلة للتطبيق؛ ولكن في المقابل النظر إلى السياق المحلي لكي يحددوا ما هي الخيارات المعقولة والقابلة للتطبيق بالنسبة لمدينتهم.
  3. البحث على المستوى المحلي لفهم مصدر الضغوط المفروضة على مدينتهم وطبيعة هذه الضغوط. ما هو سياق المحيط بمدينتهم، وكيف يؤثر ذلك على الضغوط المفروضة على مدينتهم، وكيف يتفاعل مع هذه الضغوط؟
  4. البحث على مستوى العالم لاكتشاف الطرق التي تتجاوب بها المدن البارزة عالمياً مع الضغوط الجديدة الناجمة عن توسع المدن وتقلصها، ولكن في المقابل يجب عليهم التفكّر في ما يجعل هذه الابتكارات في تلك المدن ممكنة في ذلك المكان وفي ذلك الوقت. وينبغي عليهم أن يطرحوا على أنفسهم الأسئلة التالية: هل سينجح هذا الحل هنا؟ إذا كانت الإجابة هي لا، ما الذي يجب علينا تغييره لكي ينجح هذا الحل في مدينتنا؟ أخيراً يجب عليهم أن يقرروا ما إذا كان الأمر يستحق عناء تطبيقه أصلاً.
  5. بناء الشراكات مع الباحثين المتخصصين بالمدن الذكية ليساعدوهم في تكوين فهمٍ لأثر السياق وكيف يمكن أن يفهموا سياقهم على نحو أفضل.

 

مع تغيّر العالم من حولنا وما تؤول إليه هذه التغييرات من مشاكل جديدة ومعقدة، يجب على صنّاع السياسات أن يدركوا الحاجة إلى تكوين فهم أعمق للسياق الخاص بمدنهم وأن يقاوموا الإغراء المتمثل في الإجراءات المستعجلة من خلال اللجوء إلى أنماط ابتكار عامة وشاملة. وينبغي على صناع السياسات الحضرية الساعين إلى زيادة القيمة العامة أن يعملوا بالشراكة مع الباحثين والممارسين بهدف تسليط الضوء على أهمية السياق بالنسبة لمدنهم ومواطنيهم. ويجب على هؤلاء القادة أن يدركوا أن إهمال السياق المحلي يخلق عقبات عديدة أمام مدنهم وشركائهم للتجاوب بسرعة وفاعلية مع التحديات المتزايدة الناجمة عن النقلات الهائلة الحاصلة في توزّع سكان العالم من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية ومن المناطق الحضرية الصغيرة إلى المناطق الحضرية الكبيرة. وعدم تعلّم هذه الدروس سيكون مكلفاً جداً، حيث سيؤدي ذلك إلى الاستثمار في تطبيق ابتكاراتٍ متنوعة، حتى في غياب السياق اللازم لخلق قيمة حقيقية من هذه الاستثمارات بنجاح.

 

 

 

تيريزا باردو هي مدير مركز التكنولوجيا في الحكومة، وهي عضو هيئة التدريس في كلية الإدارة العامة في جامعة ألباني، صني في نيويورك. اقرأ كامل السيرة الذاتية عبر الضغط هنا.

 

المصادر:

[1] المدن الصالحة للعيش: https://www.livablecity.org/missiongoals/

[2] في عالم آخذ بالتمدن، تعتبر المدن التي تشهد تقلصا مشكلة منسية"، بيسواس، وتورتاجادات، وستافنهاغن: https://www.weforum.org/agenda/2018/03/managing-shrinking-cities-in-an-expanding-world 

[3]  .مع فقدان البلدات الريفية لسكانها، بوسعها أن تتعلم كيف "تقلص نفسها بطريقة ذكية": https://www.npr.org/2018/06/19/618848050/as-rural-towns-lose-population-they-can-learn-to-shrink-smart 

[4] اضمحالل المناطق الحضرية: https://en.wikipedia.org/wiki/Urban_decay

[5] أبحاث المدن الذكية: الظروف السياقية، ونماذج الحوكمة، والقيمة المحققة لعامة الناس، ماير، وبوليفر، وجيل غارسيا، 2015 https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/0894439315618890 

[6] " .ما هي تركيبة المدينة الذكية؟" جيل غارسيا، وباردو، ونام، https://content.iospress.com/articles/information-polity/ip354 

التعليقات

التعليقات 0

انضم إلى المحادثة